تحقيقات وتقارير

“لا أريد أن أكلم أحدا.. فقط دعوني لوحدي” عزلة إجبارية


يمكن للعزلة أن تطرق باب حياة أي منا في وقت ما ولظرف ما.. جميعنا نمر بهذه المشكلة في وقت ما في حياتنا، أنها حالة عزلة من المجتمع عندما تسيطر على الأنسان فكرة عدم التواصل بكل أشكاله، حيث تهتف دواخله بأصرار عبارة “لا أريد أن أكلم أحدا فقط دعوني لوحدي”، بالتأكيد تتعدد الأسباب لذات الحالة، وبهذا استطلعت (اليوم التالي) آراء بعض المواطنين وخبراء من علم النفس.
فى غضون ذلك يرجع راشد عثمان (موظف) العزلة إلى إحساس الفرد بعدم جدوى علاقاته الحالية مثل ما حدث معي من قبل، وربما لأسباب أخرى. وأردف: عندما أحسست بعدم انتقائي لما يناسبني من زملاء وحتى رفقاء، حينها بدأت عزلتي لفترة حتى رتبت أفكاري بهدوء، وأخيرا قررت استعادة علاقات قديمة كنت أثق بها، وهذا لا يعني عزوفي عن علاقات جديدة، بل أقصد التأني في اختيار مقربين آخرين، وربما أجد بينهم ضالتي، وفق تعبيره.

ضعف النسيج الأسري
من جهتها، ترى منى عبد الله (ربة منزل) أن ضعف النسيج الأسري وباء فتاك. وأضافت: والعزلة من مضاعفاته الخطيرة، وما نخشاه مستقبلا هو انعدام التواصل بين أفراد الأسرة. وتساءلت لماذا اكتفى كل فرد منا بإحدى وسائل التواصل عن مجتمعه الواقعي؟ وأكدت: علينا معالجة الأمر دون تهاون، وبجهود متكاملة من قبل الأسر وذوي الاختصاص، وإلا سيؤدي الحال إلى بعض الاضطرابات النفسية لهؤلاء الأجيال. وختمت: وللمدارس أيضا دور مهم في متابعة سلوك التلاميذ الغريب والمستجد، وبالتالي تنبيه ذويهم.

التحرش بالأحفاد
فى السياق: تؤكد الأستاذة ثريا إبراهيم الحاج باحثة وناشطة اجتماعية، تعرض كل الفئات العمرية بما فيهم الأطفال إلى العزلة، ورغبتهم في عدم التواصل بأنواعه نتيجة الضغوط النفسية، لافتة إلى بعض الأسباب مثل الحساسية المفرطة والشعور بعدم الإنجاز، بجانب أحداث غير متوقعة تأتي بغتة، جلها تشكل الضغط النفسي على الشخص، ومن ثم القلق الذي بدوره يقود إلى العزلة، علاوة على الإرهاق، وبطبيعة الحال نحن السودانيين لا نلتمس العذر لغيرنا، وهذا ما يجبر الفرد منا أحيانا لإغلاق كل أبواب التواصل، بيد أنه لا يقصد العزلة عنوة، بل قصده أخذ قسط من الراحة ولو لبرهة، وينتهج ذاك السلوك نتيجة إرهاقه الذهني أو تعرضه لضغط نفسي مستمر، وكذلك السهر، جميعها أسباب تؤثر في المزاج النفسي كونها مربوطة بالأعصاب. وشددت الحاج – في ذات الصدد – على عدم تهديد وترويع الأطفال في المدارس، موضحة معاناة التلميذ النفسية التي يمر بها من تفكير وقلق في كيفية طريقة عقابه من قبل المعلم، وأحيانا مجرد تغير نبرات صوت المدرس تفزع هذا الصغير، خاصة من اعتاد الهدوء داخل أسرته. وأضافت: ما أسلفت ذكره يجعل الطفل عنيفاً أو منزوياً لحاله، وهذا يؤثر على تركيزه بشكل ملاحظ. أما عن عزلة المسنين هنا تنظر الحاج إلى الأمر بزاوية مختلفة، حيث تحذر من اكتئاب المسنين، وتقلب مزاجهم الذي يتبعه سلوك مخالف، كالتحرش بأحفادهم مثلا. وأضافت: وما أصرح به ليس من نسيج خيالي كما يظن البعض، بل واقع لابد من الاعتراف به، لذالك أكرر دائما بعرض المسن المكتئب إلى ذوي الاختصاص فورا، حتى نتلافى مثل هذه المعاطب داخل الأسر والمجتمع بصورة عامة، كما نوصي بإلحاقهم بأندية المعاشين حال وجودها أو برامج ترفيهية لإنقاذهم من بئر الكآبة.

عزلة إلكترونية
من جهته، يرى البروفيسور علي بلدو أستشاري الطب النفسي والعصبي أن العزلة لازمت السودانيين أكثر من ذي قبل. وأردف: نسبة للضغوط الحياتية المستمرة بجانب الحراك الاجتماعي الكثيف المؤثر في بنية الشخصية وحدوث نزعة نحو الانكفاء على المشاكل الذاتية، والتقوقع داخل الأسرة النووية، ومن ثم ينفرد بها الشخص بذاته. وأرجع: بلدو ما أسلفه لعدم قدرة التعايش مع الأوضاع المختلفة، في ظل ظروف غير مواتية جعلت السودان يحتل المرتبة قبل الأخيرة في مؤشر السعادة العالمي، الذي بدوره أدى إلى البحث عنها داخل الذات لإرضاء النفس، وهذا انعكس على الرغبة في العزلة والانطوائية بصورة جلية، كما تتزايد يوم تلو الآخر. يتابع بلدو: هناك عزلة إلكترونية مفروضة بغرض الابتعاد عن الواقع، وأخرى حقيقية كإغلاق الهاتف وعدم الرغبة في التواصل بأنواعه، أو الهجرة، علاوة على ذلك هناك من يفضل الانغماس في أعمال الخير والاكتفاء بالحد الأدنى من التواصل كالأعياد أوما يوازيها من مناسبات، وهذه نصفها بالعزلة الإجبارية والأخرى اختيارية، كالامتناع عن الحديث والاندياح فيه أو قلة التعبير الجسدي، بجانب ندرة الاختلاط بالآخرين في الأندية أو المراكز إن وجدت.

أنشطة مستهلكة
لا يزال بلدو يواصل حديثه منبهاً من عزلة داخل الأسرة ذاتها وانشغال أفرادها بأنشطة تستهلك معظم أوقاتهم، وبذلك تضعف علاقاتهم الحميمية، ويقل أو يكاد ينعدم التواصل بين الأجيال، زيادة على ما يسمى بالصمت الزواجي، كل هذا يؤدي إلى الاكتئاب والقلق والتوتر ضف إليه الإحباط الذي يزيد الشعور بالتعاسة، فضلا على تأثير حياة الشخص العامة بما أسلفت في انخفاض المردود الاجتماعي والعلمي، ورفض الحياة المشتركة، بالمقابل شعور الفرد في رغبته بالانزواء وابتعاده عن منظومات اجتماعية ثابتة، ومصفوفات ذات طبيعة راتبة، تجعله أقل إيمانا بالجماعة وأكثر قناعة بالعزلة الداخلية. وختم بلدو بتحذيرة من عواقب العزلة كالتدهور في النسيج الاجتماعي وتهتك العلاقات ما بين الأفراد، وبالتالي تنتشر العزلة والتعاسة في حياتنا أكثر من ذي قبل.

الخرطوم – خالدة المدني
صحيفة اليوم التالي