أبشر الماحي الصائم

مسجدنا والحريات


قبل أربعين عاماً لم يكن لنا مسجد في قريتنا (بانت) بجنوب بربر، فكَّر شيوخ القرية في بناء مسجد فكان لهم ذلك، والغريب في الأمر أن إمام المسجد ومؤذنه من الشباب، ومعظم الذين يؤمون المسجد من الشباب أمثال الشيخ إلياس علي كرم الله والدكتور غلام الدين عثمان آدم، وزوار المسجد من خارج المنطقة من الشباب أيضاً أمثال الشهيد علي الروى والأستاذ علي كرتي والأخ المهندس بدرالدين أحمد الجعلي والأخ المهندس إبراهيم موسى الخليفة، وكان يحاضرنا آنذاك الأستاذ محجوب مصطفى الحاج والأستاذ صهيب عبدالرحمن العالم والشيخ خلف الله كرم الله رحمه الله.
بهذه الهيئة كان مسجد قريتنا يسمى مسجد (الوليدات).. وذات مرة زارنا أحد الوعاظ من مدينة عطبرة وبعد صلاة الجمعة وقف متحدثا.. وبعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ذكر قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل وشرح وصية رسول الله لابن عمه عبدالله بن عباس، ثم أخذ يتساءل في حماسة.. أين أبناؤكم؟ أين شباب القرية؟ ومن سيرثكم في هذا المسجد بعد مماتكم؟ تعجب الحاضرون لخطيبنا الذي لم يقرأ الواقع والشباب يتزاحمون على الصفوف الأمامية.
تذكرت هذا الحدث وأنا أستمع لكثير من السياسيين وهم يتحدثون عن الحريات في السودان وخاصة بعد مؤتمر الحوار وكنت أسائل نفسي.. عن أي حرية يتحدثون؟
ألم تكن في بلدنا أحزاب؟
ألم تكن لهذه الأحزاب دور وصحف؟
ألم تعقد هذه الأحزاب محاضرات وندوات في الميادين العامة؟
ألم تُسيِّر هذه الأحزاب مظاهرات ومسيرات تُعبِّر فيها عن رأيها؟
ألم يكن من حق أي مواطن أن يبيع ويشتري ويشتغل داخل وخارج السودان بحرية تامة؟
قل لي بربك.. في أي بلد عربي أو إسلامي توجد هذه المساحة من الحرية؟
إذن السؤال الذي يعرض نفسه: عن أي حرية يتحدث هؤلاء القوم؟
أخشى أن تكون الحرية المطلقة التي تبيح المنكرات، وتسمح بالمحظور في قارعة الطرقات.. أخشى أن تكون الحرية التي تحرق وتخرب وتدمر منشآت الشعب.. أخشى أن تكون الحرية التي ينفرط فيها عقد الأمن، فيصبح السودان معبراً للمخدرات والمخابرات.
أفيدونا أيها القوم أي حرية تريدون لسودان المكرمات؟
أحسب أن القضية الأولى أننا لم نتفق على تعريف موحد للحرية ولعل أفضل ما قيل “إن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين”.
* خلاصة:
لا يفوت على القارئ الفطن الرابط بين مسجدنا والحريات.. لعله بجامع الوجود في كل، فيوجد بمسجدنا شباب على غير ما لاحظ الواعظ حين توجد ببلدنا حريات على غير ما يرى السياسيون، ومن يرى غير ذلك فليأتنا بالدليل.. والله من وراء القصد.
أخوكم عبدالله البشاري
* من المحرر.. أخي الأستاذ البشاري.. حياكم الله.. فقضية الحريات واحدة من القضايا المختلف حول (مدى سقوفاتها) بين المدارس الفكرية.. غير أننا في الوسط الصحفي ظل (بيت قصيدنا) المنشود يتمثل في مبدأ (التحاكم إلى القضاء).. على أن يكون تقدير المصلحة العامة متروك لتقديرات القضاء.. فما يراه أحد الناشطين المناضلين على سبيل المثال، من شرعية مفترضة لنضال الجبهة الثورية.. قد تراه أنت في المقابل خيانة كبرى ضد الوطن!!
* تمنيت لو أنك، كرجل منابر تربوية ودعوية، تعرضت وتوسعت في حرية (منبر الدعوة) في بلادنا.. فربما كان السودان من الدول القليلة جداً التي لا تعين فيها وزارة الإرشاد والأوقاف خطيب الجمعة، كما لا تلزمه بخطاب معين، وهذه الحقيقة ربما يدرك قيمتها الخطباء والدعاة ممن أتيح لهم السفر والترحال والضرب في بلاد العالم.. وأنت يومئذ واحد منهم.
* كما أعزي حالة الاستقرار التي نتفيأ ظلالها الآن وسط عالم مضطرب، أعزيها من بعد نعمة الله تعالي وفضله، إلى سقوفات الحرية المتاحة، على أن عمليات الانسداد دائما تولد الانفجار.
* نسأل الله تعالى الأمن والإيمان والسلامة والاستقرار.. وصلى الله على نبينا المختار محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.