مصطفى أبو العزائم

عباقرة ودجالون.. (!)


ما نُسب للدكتور “محمد محيي الدين الجميعابي” من تصريحات قال فيها إن الأطباء الذين أشرفوا على علاج الشيخ الدكتور “حسن عبد الله الترابي” عقب الاعتداء عليه في “كندا” من قبل “هاشم بدر الدين” اكتشفوا أن دوائر الذكاء في عقل الشيخ المصاب غير عادية، وأنها تشير إلى عبقرية قل أن توجد إلا عند قلة من الناس هم العباقرة الأفذاذ، تلك التصريحات التي نشرتها إحدى الصحف عقب وفاة الشيخ “الترابي” – رحمه الله – بأيام سرعان ما نفاها الدكتور “الجميعابي” وكنا ضيفين على برنامج (الصالة) في (فضائية الخرطوم) الذي يعده ويقدمه زميلنا الأستاذ “خالد ساتي”، ثاني أيام وفاة الشيخ الدكتور “الترابي”، وقد أثنى وأطنب وأشاد الدكتور “الجميعابي” بأستاذه وشيخه الراحل، واصفاً إياه بالعبقرية والنبوغ والتميّز، لكنه لم يقل بمثل ذلك القول المنسوب له، والذي وجد أخذاً ورداً في أعمدة ومقالات الرأي بعدد من الصحف.
لا خلاف حول عبقرية الشيخ الدكتور “حسن الترابي”، وقد كان رجلاً فذاً صاحب رؤية ومنهج وطريقة مثلى في التفكير والتأثير، ومثله لا يحتاج حقيقة لإطلاق مثل تلك الأقوال لإثبات عبقريته.. ولكن الأمر يتطلب وقفة، بل وقفات لمعرفة العبقرية وتعريفها، لأن الكثير من العباقرة ربما يعيشون بيننا ولا ننتبه لعبقريتهم إلا بعد الرحيل، خاصة في مجال الإبداع، فللعبقرية أسرارها.
هناك أدعياء كذبة، يشيعون عن عبقريات متخيلة يتمتعون بها، وبعضهم يلعب أدواراً في (ذهنه المريض) فقط ويحاول أن يوهم الآخرين بذلك، ويستشهد بالموتى للتأكيد على ما يقول، مثل في حالة أحد الصحفيين القدماء، وقد رحل عن دنيانا إبان انشغال الدنيا والعالمين برحيل الدكتور “حسن الترابي”، فقد كان ذلك الصحافي الراحل من الأدعياء ومزوري التاريخ، سليط اللسان بذئ العبارة، وهذه للعلم ليست (غيبة) ولا (نميمة)، لكن ما كان يقول به ذلك الدعي اتصل بالشأن العام، وقد وقفنا أمامه في حياته، وهاجمناه، وهدد وتوعد، وأرغى وأزبد، ولكن في مكانه فقط.
هناك فرق بين العبقرية والدجل، بين النبوغ والكذب، فللعبقرية حدود، ولكن ليس للدجل أو الكذب حدود، ما علينا.. نعود إلى ما بدأنا به، ونتساءل إن كانت هناك علاقة ما بين الذكاء والعبقرية، وقد حاول الأكاديميون قياس الروابط بين الذكاء والعبقرية، كما يقول العالم الأمريكي “مايكل ميكالكو” في أحد مؤلفاته القيمة (كيف تصبح مفكراً مبدعاً.. أسرار العبقرية الإبداعية) المترجم إلى العربية بقلم “عُلا أحمد إصلاح”، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2011م، يقول ذلك العالم إن محاولة الأكاديميين قياس الروابط بين الذكاء والعبقرية، أثبتت أن الذكاء ليس كافياً، إذ إن “مارلين فوس سافانت” التي يعد معامل ذكائها العقلي هو الأعلى على الإطلاق في العالم حتى يومنا هذا، لم تسهم كثيراً في العلم أو الفن، بل هي صحفية تحرر (عمود) أسئلة وأجوبة في مجلة باريد Parade كما إن علماء الفيزياء العاديين توجد لديهم معامل ذكاء عقلي أعلى من أحد أشهر الفائزين بـ(جائزة نوبل)، وهو “ريتشارد فينمان” الذي يسلم كثيرون بأنه آخر العباقرة الأمريكيين رغم أن معامل ذكاه العقلي كان (122) فقط.. فتأمل على قول البعض (!).
العبقرية وفق ذلك القياس لا تعني التفوق في المدرسة وإحراز الدرجة الكاملة في كل المواد، أو حل الكلمات المتقاطعة قبل الآخرين في زمن قياسي، ولا تعني كما يقول “مايكل ميكالكو” ارتفاع معامل الذكاء العقلي للإنسان بصورة غير عادية، أو أن يكون الشخص ذكياً، حتى العبقرية وفق ذلك المنطق كما خلص إلى ذلك علماء النفس، هي شيء مغاير تماماً للذكاء، لذلك طالب بعض العلماء بضرورة التركيز العلمي على الإبداع، فالإنسان يمكن أن يكون مبدعاً بدرجة أكبر كثيراً من كونه ذكياً، أو العكس، وربما لنا في محيط كل منا الشخصي نماذج أو تجارب، لأنك قد تجد – مثلاً – مطرباً مبدعاً عبقري العطاء في مجالات التلحين والموسيقى والأداء، تسأله عن أمنيته الفنية، فيقول لك (أحجج أمي).. وقد حدث هذا من قبل.. وفي المقابل تجد دعياً وهو في حالة غضب شديد، يهدد بهدم المعبد بمن فيه، فيقول بكل ثقة و(جهل): “عليّ وعلى أعضائي”.. أو تجد دعياً آخر يودع ابنته العروس – الوحيدة – وهي في طريق هجرتها مع زوجها إلى إحدى قارات الدنيا، يودعها والدموع تغطي عينيه وهو يقول إلى جنات الخلد، اللهم أرحمنا أجمعين.