تحقيقات وتقارير

شخصيات في ذاكرة الانتفاضة


قد يحسب القارئ لهذه المادة الصحافية أنها كتبت من معلومات متوفرة للعامة او وقائع الحدث «الانتفاضة» أو من خلال ما جادت به أحاديث الذين وردت أسماءهم بها. مما يجعل كتابتها في ساعة او اثنين من الزمن أمراً ميسوراً. وهو ما لم يحدث البتة. بل كانت هذه المادة من خلال مشقة بحث وضنك سؤال ومعاناة لن يصدقها أحد.. وهو ما جعلها تكتمل بعد سنوات ثلاث قمت خلالها بالبحث وبل تطلب الأمر اتصالات هاتفية بمصادر تقيم الآن خارج السودان، بالإضافة لمقابلات قمت بها مع عدد من الذين كانت أسماؤهم موجودة داخل هذه المادة. داخل منظومة أحداث وشخصيات كانت داخل قلب الحدث الأبريلي الأشهر من خلال شهوره في سنوات غابرات وحديثات، برزت أسماء ولمعت من جانبي الحكومة والمعارضة او أهل السلطة من المحترفين مهنة لمهامهم داخل مؤسسات الدولة. وكان لدورهم المعلوم الواضح في سير الحدث حتى منتهاه يوم السبت 6 أبريل 1985م.

الاهتمام بالتظاهرات
منذ استلامه لمهام النائب الأول لرئيس الجمهورية بتاريخ الاحد 17 مايو 1981م ظل عمر محمد الطيب مزاوجاً ما بين العمل الرئاسي في غياب الرئيس نميري وظلت نشاطاته موزعة ما بين رئاسة جهاز أمن الدولة وتصريف مهام النائب الأول وأحياناً رئيس الدولة خاصة في حالات غياب نميري التي كانت في تكاثر واضح اذ بلغت سفرياته الداخلية في الفترة من اكتوبر 1981 وحتى 29مارس1985 سبعة عشر سفرية داخلية مع أربع وعشرين سفرية خارجية كانت أمريكا وحدها أربع سفريات بواقع سفرية واحدة كل عام.
بتاريخ 1 ابريل 1981 وصلت تقارير متعددة لرئيس جهاز أمن الدولة والرئيس الفعلي للدولة في غياب الرئيس تفيد بالمزيد من التظاهرات مع إمكانية تدخل الجيش لحسم الأمر والانحياز للشعب.
بتاريخ الثلاثاء 2 ابريل 1985م وعند الساعة العاشرة صباحاً هبط موكب النائب الأول عمر محمد الطيب بالقيادة العامة للقوات المسلحة وحينها وبعد دخوله مكتب القائد العام وبوصفه رجل مخابرات من طراز نادر، أحس اللواء عمر محمد الطيب بأن النظام القائم قد ذهب قبل إعلان ذهابه من خلال نظراته وتحليلاته لمجمل ما أحسه من مقابلة هيئة القيادة. فغفل راجعاً نحو رئاسة جهاز أمن الدولة ليتابع الموقف عن قرب، ويحمد للواء عمر الطيب تماسكه في ظروف بالغة التعقيد، وبل تصرفه بكياسة وحصافة مع اجتماع قادة الجيش حين علم بتصميمهم على الانحياز للشعب مما جنب البلد كارثة كانت ستكون مستمرة الخسائرة حتى يومنا هذا.
فوهة البركان
منذ دراسته الثانوية بمدرسة خورطقت الثانوية عرف سوار الذهب بتقوى وتدين واضح، وكان من نتيجته أن اشتهر بين زملائه بالصلاح والتقوى. ليصل في مارس 1985م لمنصب القائد العام للجيش في آخر تعديل وزاري لحكومة مايو. يفاجأ الفريق سوار الذهب بعد يوم 30 مارس 1985م بأن وجوده كقائدة عام للجيش هو الامتحان الأصعب له في حياته كضابط بالجيش.. وذلك بعد أن تيقن بأن هذه التظاهرات لن تقف ولن تكون لها نهاية إلا بسقوط الحكومة ووجود حكومة أخرى.
يحمد له التعامل بعقلانية بعيداً عن لغة العسكر وتصرفاتهم المعلومة في مثل هذه الأحداث. فعندما وصل الأمر بالبلاد لطريق مسدود يوم الخميس 4 أبريل 1985م توكل على الحي الذي لا يموت وكان أن انتظر اجتماع هيئة القيادة الأخير في تاريخ حكومة مايو وكان الانحياز للشعب الشيء الذي جعله واحداً من الشخصيات الأكثر جدلاً ما بين الذين مقتوه والذين أحبوه من طرفي الصراع يومها.
الموقف الخفي
ومن أسف متكاثر أن الذاكرة السودانية تحتفي فقط بالذين هم على سدة الأحداث، وبل القادة في أي موقع أياً كان، وتنسى او تتناسى أن لآخرين دور مهم للغاية في صنع الأحداث، وبل المشاركة بفعالية فيها.
أحد هؤلاء هو الرجل الخفي والشخص الذي ظلم من قبل زملائه والإعلام وهو العميد عز الدين هريدي الذي تابع الأحداث منذ 26 مارس وحتى صباح السبت 6 أبريل.. وكان لحسن تصرفه، بل وتوجيهاته في دائرة عمله بالقيادة العامة الدور الأكبر في إنجاح مسعى استلام الجيش للسلطة. ليس هذا، فحسب فقد كان لتحركه من الخرطوم نحو حامية جبل أولياء يوم الجمعة والمبيت بها السبب في تأمين الخرطوم من أي تحرك بإمكانه أن يجهض ثورة الشعب. ظلم الرجل مرتين، فالأولى تخطى الاختيار له كعضو بالمجلس العسكري الانتقالي، والثانية عدم ذكره وما قام به من تأمين لثورة الشعب.
ما بين الثورة وإعلانها
لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أن تكون سبعة أيام كفيلة بإسقاط أعتى أنظمة الأمن والترصد. ولكن حين يعلم الناس بأن ثلاث جهات كانت هي الأكثر بروزاً وقتها، يعلم بأن تكامل وتناسق العمل بصورة لم تكن في الخاطر أسهم كثيراً في نجاح الانتفاضة.. وهي مؤسسة القضاء والهيئة القومية للكهرباء وجهاز الشرطة.
فمؤسسة القضاء كان إضرابها بمثابة تحريض ودعوة لبقية الفئات بالتوقف عن العمل. أما الهيئة القومية للكهرباء فكان إضرابها هو القنبلة التي جعلت الشارع ينفجر في وجه النظام.
لتبقى الحقيقة بأن جهاز الشرطة كان الجهاز الأكثر إحساساً بما تقوم به جموع الشعب.. وهو ما حدا بقادته التعامل بكل حنكة وأخلاق مع المتظاهرين حتى تكللت الجهود بالنجاح الظافر للانتفاضة.
ليس في الخاطر
والبلاد تمور في حراك واضح المعالم، كان اللواء عثمان عبدالله أحد الذين وجدوا في مصنع القرار بالقيادة العامة للقوات المسلحة.
آلى على نفسه العمل وسط الضباط وتم حينها وضع بعض المقترحات، وكان أولها الانحياز للشعب دون إبطاء حقناً للدماء. وهو ما جعل هذا المتقرح يخرج من ضمن مقترحات عديدة كانت تتأرجح ما بين الانتماء لقيم القوات المسلحة واستلام السلطة واعتقال قادة أجهزة الدولة. بتاريخ الخميس 4 أبريل 1985م خرج وبصورة سرية للغاية مقترح اللواء عثمان عبدالله بضرورة الانحياز للشعب، وذلك وسط قادة الإدارات المسلحة بالقيادة وهو ما وجد قبولاً لدى القائد العام للقوات المسلحة الفريق سوار الذهب الذي لم يكن هو الآخر ببعيد عن هذا المقترح. وللحقيقة والتاريخ، فقد أجمع أربعون من ضباط القوات المسلحة بأن صاحب الاقتراح هو اللواء عثمان عبدالله.
الشرطة والشعب
مثل موقف الفريق شرطة عباس مدني تجاه المتظاهرين واحداً من سبل نجاح الانتفاضة، وذلك بعد رفضه في اجتماع ضمه واللواء عمر محمد الطيب والفريق عبدالرحمن سوار الذهب، التصدي للمتظاهرين وإطلاق النار عليهم.. وكان أن ذكر لهم بالحرف الواحد أنه ليس من مهام وواجبات الشرطة إطلاق النار على المواطنين، مستصحباً قانون الشرطة وقيمها التليدة. وأضاف بأن التاريخ لن يرحم أي شخص في موقع مسؤولية عمل عملاً ضد الشعب والمواطن والوطن، قتلاً كان أم تعذيباً أم أذى سواء أكان بسيطاً أم جسيماً. وبعد الانتهاء من الاجتماع الذي كان تاريخ انعقاده 3 ابريل 1985م بدأت أولى حالات القتل للمتظاهرين وتحديداً بمنطقة مدينة الصحافة بالخرطوم عبر مسدسات كاتمة للصوت قامت بها جهة تتبع للنظام ومن عجب لم تكن الجهة جهاز أمن الدولة وهو ما سيكون حيث الكشف عنه زلزالاً مخيفاً.
لا تطلقوا النار
عمل الفريق «أ» شرطة إبراهيم أحمد عبدالكريم كمدير للمباحث المركزية قبل الدفع به كمدير لشرطة محافظة الخرطوم قبل ستة أشهر من اندلاع الانتفاضة.
وبوصفه واحداً من رجال المخابرات القدامى أثناء عمله بجهاز الأمن القومي في بوابة السبعينيات وعمله كذلك كقنصل للسودان بجمهورية إفريقيا الوسطى، فقد كان لحدسه العالي السبب في جعل توجيهاته تنطلق منذ يوم 2 أبريل 1985م مساءً. وذلك حيث أطلق مجهولون النار على شاب وسط الخرطوم وأردوه قتيلاً وتلخصت توجيهاته لضباط وجنود الشرطة بعدم إطلاق النار، بل وحمل السلاح الناري والاكتفاء بالهاروات فقط.. الشيء الذي جعل عدداً من ضباط جهاز أمن الدولة يشتاطون غضباً من تصرف الشرطة ويطالبونها بحسم التظاهرات والمتظاهرين مما جعل كلمة وحديث مدير عام الشرطة الفريق عباس مدني تنطلق متحدثة عن مهام الشرطة وواجباتها.
اللحظات الأخيرة
يبرز الدكتور محمد عثمان أبو ساق كواحد من علماء علم العلوم السياسية.. وهو من أصحاب المجهودات الوافرة في عدد من نظريات السياسية إبان عمله كأستاذ للعلوم الساسية بجامعة الخرطوم. عمل د. أبوساق كوزير للإعلام بحكومة مايو في أبريل 1978م.. ومن ثم أميناً لأمانة الفكر بالاتحاة الاشتراكي السوداني.. وأخيراً أميناً لمنظمات الفئوية بالاتحاد الاشتراكي.
ظل د. أبو ساق مكان نظر لأهل مايو من الذين أحسوا بدنو أجل الحكومة فكانوا في هلع وخوف من مصيرهم.. والآخرين من معارضي مايو. الذين كانوا في انتظار الخلاص. تلخصت نظرات واهتمامات الطرفين لهذا الرجل الذي ظل يدافع عن مايو حتى آخر رمق من عمرها غير عابئ بما يمكن أن يحدث له. فسواء اختلف الناس معه أم اتفقوا، فقد سجل الرجل اسمه كأحد الصادقين في انتمائهم والتمسك بما يراه.
نصائح لنميري
تتبدى عدد من الشواهد وجود الإدارة السياسية المصرية داخل منظومة المتابعة الدقيقة لما كان يجري في السودان منذ يوم 21 مارس 1985م وليس أدل على ذلك وجود عناصر من المخابرات المصرية كانت قد حطت بمطار الخرطوم يوم 22 مارس 1985م بقيادة أحد ضباط المخابرات المصرية من الذين عملوا بعد سنوات كقنصل بالسودان.
تركزت جل اهتمامات هذه العناصر بجمع معلومات دقيقة حول التنظيمات السياسية التي تقود العمل السياسي آنذاك مع التأكد من وجود عدد من الشخصيات ذات الصلة بمصر داخل قلب هذه الأحداث.
أنتج كل ذلك نصائح كانت ذات طابع واضح الرؤية من الرئيس المصري حسني مبارك لنميري.. وأهمها بالطبع المحاور الثلاثة التي توصل إليها فريق العمل المخابراتي المتواجد بالخرطوم تحت سمع وبصر السلطة وبتنسيق تام بينهما وهي «أي المحاور الثلاثة»
1/ إجراء تعديل وزاري كلي يصبح فيه الرئيس نميري رئيساً شرفياً للدولة مع مزج عناصر السلطة متخذة القرار بشخصيات معارضة تقود التظاهرات حينها.
2/ تحجيم سلطات جهاز أمن الدولة والعمل على منح جزء من صلاحياته لجهاز الشرطة.
3/ الموافقة على استخدام سلاح الطيران المصري في العمليات العسكرية بجنوب السودان. وذلك بعد وصول أكبر شحنة للسلاح لجون قرنق من ليبيا وإثيوبيا وهي الشحنة التي تعتبر أكبر شحنة سلاح تصل لجون قرنق منذ مايو 1983م وحتى توقيع اتفاق السلام الشامل في يناير 2005م وتاريخ استلام قرنق للسلاح كان في نوفمبر 1984م

الانتباهة