تحقيقات وتقارير

في عامها الحادي والثلاثين يبدو سؤال الانتفاضة عالقاً في تفاصيل الوثبة ومتجاوزاً قدرتها على إنجاز التغيير.. هل حققت حقبة ما بعد الحوار المراد؟ أبريل الشعب.. وأبريل الساسة


في السادس من أبريل عام 2014، كانت الخرطوم تخلع عنها ثوب الثورة وذاكرة الانتفاضة لتتوشح برداء الحوار.. يومها كانت قاعة الصداقة تردد صوت الرئيس البشير وهو يلقي كلماته الترحيبية، بينما كان رئيس وزراء انتخابات ما بعد أبريل جالساً في الصفوف الأمامية. أصوات السارينا التي سبقت عربة الراحل الترابي بدت وكأنها تمد لسان سخريتها من مفاصلة رمضان.. العتباني برفقة آخرين يجلسون في مائدة قاعة الصداقة الدائرية، جنباً إلى جنب مساعدي الرئيس، وتنقل قنوات الإعلام أصواتهم لتقول بأنه آن الأوان لهذه البلاد أن تفطر من صيام عدم الاستقرار، وإنه الوقت المناسب للقول (أرضاً سلاح). كانت نهاية تلك الجلسة إيذاناً بانطلاق حقبة الحوار الوطني.. ليلتها جلس قيادات الأحزاب السياسية في شكل دائري بغية تحقيق المساواة.. كان الكل يبحث عن شيء واحد وهو تحديد الكيفية التي تدار بها عملية الحوار الوطني.

ويعود البعض لاجترار ذاكرة السادس من أبريل؛ الثورة التي أطاحت نظام مايو قبل أكثر من ثلاثة عقود، عبر انتفاضة الشعب أو ثورته، التي يقول البعض إنها لم تكتمل بالكيفية التي تم التخطيط لها، أو أنها راحت (شمار في مرقة) الاختلافات السياسية والتي جعلت القيادات السياسية في البرلمان تقول (الديمقراطية دي لو شالها كلب ما بنقول ليهو جر). الجامعة التي رسمت مشهد الثورة قبل 32 عاماً ترسم أمس الأول مشهدها المغاير؛ عمر الدقير رئيس اتحاد الانتفاضة الذي قاد الطلاب نحو الشوارع آنذاك يعجز وهو في منصبه الجديد كرئيس لحزب المؤتمر السوداني أن يضع خطواته داخل شارع المين بغية الاحتفال بالثورة، ومخاطبة الطلاب. في نهاية المطاف يكتفي الرجل وحزبه بصياغة بيان يدينون فيه السلوك ويحشدون من خلاله الشعب لاستعادة أبريله المجيدة.

ويبدو البعض في حالة من الاقتناع بأن استعادة أبريل بنسختها القديمة أمر على درجة عالية من الصعوبة. أصحاب هذا الاتجاه يدعمون أطروحتهم بالتغييرات التي اعترت المشهد السياسي، وتغير موازين القوى فيه، مع تراجع دور النقابات؛ باعتبار أنها كانت رأس الرمح في إنجاز الانتفاضة. الأمر لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال في ظل وجود قوى جديدة تتبنى التغيير عبر استخدام السلاح في ظل سعي الآخرين لإدراجها ضمن مشروع تسوية سياسية تضع النهاية الموضوعية للأزمات السودانية.

وفي عامها الحادي والثلاثين يبدو سؤال أبريل هذه المرة متجاوزاً للانتفاضة في قدرتها على إنجاز تغيير، ومرتكزاً في ناصية الحوار..
مؤكد أنه في هذه المرة سيعبر فوق ثلاثين عاماً ويرسم استفهامه أمام بوابة قاعة الصداقة حيث جرت المداولات الأولى، وبقية جلسات الحوار، ومن ثم إعادة صياغته بعد عامين؛ ما الذي جري تحت جسور البلاد الآيلة للسقوط؟ وهل حققت السلطة ما تريده من العملية؟ وماذا عن القوى المعارضة الرافضة منذ البداية أو تلك الموقعة على رفضها بعد حين؟ وقبل كل هؤلاء هل حققت حقبة ما بعد الحوار للشعب ما يريد؟
بعد عامين انتهت المداولات وصولاً لمرحلة مخرجات الحوار وهو ما خلق حالة من التباين والاتهامات المتبادلة بأن ما سيكتب في نهاية المطاف مغاير لذلك الذي اجتمعت عليه كلمة المتحاورين أثناء جلساتهم؛ يؤكد البعض على أن مغادرة القوى المؤثرة سياسياً للعملية يفرغها من مضمونها. هنا الحديث يمضي في اتجاه مغادرة الإمام الصادق البلاد برمتها مغاضباً عقب اعتقاله وتبعه لاحقاً غازي العتباني وآخرون محتجين على طريقة إمساك الحزب الحاكم بكل الملفات وسعيه لتوظيف الحوار باتجاه ما يضمن سيطرته المطلقة وضمان استمراريته. ربما ما كشفته هذه القوى لاحقاً كانت قد حسمته قوى الإجماع الوطني بقولها إن الوطني يحاور نفسه من أجل ضمان بقائه.

وفي الذكرى الثانية لعملية الحوار الوطني فإن متتبع قائمة المشاركين يكتشف من خلالها وجود الإصلاح الآن ومنبر السلام العادل في تحالف (قوت) الساعي للتغيير.. يخاطب المهدي الجميع من منفاه القاهري قائلاً بأن ما حدث في القاعة لا يمكن اعتباره غير خطوة أولى تأتي بعدها خطوات أخرى.. هو بداية المطاف، وليس نهايته.. النهاية المنتظرة هي تلك التي يغازلها البعض عبر مؤتمر تحضيري خارج حدود الوطن وهو المرفوض من الحكومة التي تنتظر مخرجات ما تم الاتفاق عليه ومعه انتظار قائمة الملتحقين بالسفينة وهو أمر يتواءم مع ما قاله المحلل السياسي والمتابع للمشهد الدكتور خالد التجاني عند لحظة انطلاق الجمعية العمومية وهو يحصر إمكانية النجاح في التسوية بإعلاء قيمة الاستراتيجي على التكتيكي، والوطني على الحزبي، والعام على الخاص، وهي أمور لم يتم تحصيلها لغياب الاعتراف بأن من اجتمعوا في قاعة الصداقة هم جزء من الأزمة السياسية، وأن الاعتراف هو أول طرق الوصول الى تسوية مرضي عنها.

بعد عامين غاب الاعتراف وغابت الرؤية والرغبة في الجلوس من اجل الوصول إلى اتفاق.. غاب أيضاً عراب الحوار الشيخ حسن عبد الله الترابي، وعندما نعاه الناعي خرج البعض ليقول بأن الحوار الآن في ذمة الله بعد أن فقد قوة الدفع ممثلة في كاريزما الشيخ، وبقي كمال عمر وحيداً ينادي على الناس؛ من كان ينتظر الترابي فإن الترابي قد مات ومن كان ينتظر الحوار فإن الحوار باق بالتزامنا بمخرجاته، لكن عمر بدا وكأنه يناجي الصدى ليخرج صوت التوقيع الثنائي بين الحكومة وأمبيكي في أديس أبابا وخرج الآخرون من مولد الاتفاق ببيانات الرفض والتي أعقبتها بيانات أسماء الضحايا في حرب لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
ثم يخرج الاتحاد الأوروبي في بيان أمس مبشراً الجميع بالتسوية ومعتبراً خطوة الحكومة وأمبيكي خطوة مطلوبة في الوقت الراهن ومغلقاً الأبواب أمام الآخرين، إلا باب أن الحقوا ما فاتكم؛ فأبريل التي يصنعها الشعب ضاعت في خلافات الساسة.

الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي