منى ابوزيد

الرطانة مهددة بالزوال ..!


الأحد, 10 أبريل 2016 07:53 أعمدة الكتاب – هناك فرق – منى أبو زيد إرسال إلى صديق طباعة PDF
“سامتا تود، تنين واي .. إنكتي، يويو قونجرا .. إرأيقي كوبو، يويو قونجمي .. إرأيقي قاري، يويو قونجمي” ..مقطع غنائي من حكاية للأطفال في تراث الدناقلة ..!
أذاعت الـ بي.بي. سي – قبل فترة – خبراً طريفاً على لسان رئيس المعهد المكسيكي للغات، مفاده أن رجلين من إحدى قرى المكسيك تجاوزا سن السبعين من العمر قد تخاصما وما عادا يتحدثان إلى بعضهما البعض ..!
بطبيعة الحال لا يمكن أن يرتقي خبر خصامهما درجة من الأهمية بحيث يذاع في المحطات العالمية إلا إذا كان لهذا الخصام تأثيراً عاماً يهم بقية خلق الله، وقد كان الأمر مهماً بالفعل، فخصام هذين الرجلين يعني تهديداً واضحاً بزوال لغة (زوك) التي لا يتحدث بها سواهما .. وقد قال رئيس المعهد المكسيكي للغات في معرض تعليقه على هذه الواقعة بأن أكثر من (20) لغة مهددة بالزوال في المكسيك..!
ترى هل سيأتي يوم يشكل فيه خصام عجوزين من بعض أهلنا في الشمال تهديداً بزوال (رطانة) النوبة مثلاً؟! .. لا أعرف بالضبط، لكن واقع الحال يؤكد بأن قلة من الناس في أقاليم السودان الأخرى يجيدون التفريق بين (المحسي) و(الحلفاوي) و(الدنقلاوي)، والبقية لا تفرِّق بينهم، فكلُّهم (رطَّانة) يتحدثون مع بعضهم بكلام غير مفهوم، والنازحون الجدد القادمون إلى العاصمة يخاطبون الآخرين بلغة عربية مهشَّمة، ومخارج حروفها تحمل آثار رطانة ما، إنما لا ضرورة للتدقيق فكلها (رطانة) ..!
هل يكترث القائمون على أمر الثقافة الشعبية في بلادنا أن مفهوم الاندثار لا يقتصر على اللغة، كحروف ودلالات لفظية، بل تقاليد وعادات وملامح حضارية ضاربة في القدم تروي الكثير عن التفاصيل اليومية في حياة الناس لكنها ظلت حبيسة جدران اللغة أو (الرُّطانة) التي لا يجيد فك طلاسمها سوى أبناء القرى الذين ترعرعوا فيها ونفر قليل من سكان المدن الذين توارثوها عن أهلهم الذين نقلوها إليهم ..؟!
هل يكترثون إلى بعض تلك الملامح الآخذة في الزوال مثل أغاني رائعة للأطفال تنشدها (الحبوبات)، تحوي قصصاً وعبراً وطرائف، شأنها شأن الكثير من قصص الأطفال الأخرى المأخوذة عن عيون التراث العالمي، والتي قام بعض المهتمين بتنقيحها وتشذيبها ونشرها في مطبوعات أنيقة ..؟!
حاجز اللغة ساهم بشكل كبير في اندثار بعض هذه الأغاني، أو أنه على الأقل قد عاق من انتشارها على نحو شعبي، فحفظها في أضابير ومؤلفات بعض الباحثين المتخصصين لا يعني الحفاظ عليها بشكل صحيح ..!
وإن كانت هنالك الكثير من الموروثات المحلية التي يصطحبها المغتربون معهم إلى خارج البلاد ويظلون على تمسكهم بها، بل ويصرون على المحافظة عليها كما هي، على الرغم من تغير الكثير من ملامحها في مسقط رأسها نفسه بفعل متغيرات الأوضاع السياسية والاقتصادية، وانسحابها بالضرورة على بعض العادات والتقاليد الاجتماعية، فـ(الرطانة) من أهم هذه الموروثات المسافرة العابرة للقارات ..!
وقد ساعدت (روح القطيع) التي تسيطر على هؤلاء المغتربين أينما حلوا على بقائها معهم، فهم يبحثون عن بعضهم البعض في أي بقعة نائية وينشئون الجمعيات والروابط المختلفة، ولا تكاد مدينة من مدن العالم تخلو من أمثال هذه الروابط والتجمعات ..
لكن هذا التقوقع والانغلاق قد يساهم في تراجع نسبة المتحدثين بتلك (الرطانات) لا انتشارها، كما قد يظن البعض ..!
يا أيها الرطَّانة اتركوا التقوقع والانغلاق على بعضكم البعض وانفتحوا على الآخرين، فقد يأتي يوم يذاع فيه خبر خصام بين آخر اثنين منكم باعتباره حدثاً جللاً يهدد بزوال رطانتكم ..!