أبشر الماحي الصائم

لمن فاتهم .الاستماع


تحتاج الشعوب والحكومات في أوقات الأزمات أن تنفتح على تجارب الآخرين.. أعجبتني هذه التجربة الأفريقية، فأردت أن نقف عليها جميعا بغرض الاعتبار والاستلهام.
* ربما كان (توماس سنكارا) أكثر رئيس أفريقي ظل باقيا في الذاكرة الحياتية من أي رئيس أفريقي آخر، ذلك الرجل الذي حكم بوركينا فاسو منذ أغسطس 1983 حتى اغتياله في 15 أكتوبر 1987، الذي استطاع أن يحوّل بلاده في غضون أربعة أعوام من بلد فقير يعتمد على المساعدات إلى بلد مستقل اقتصادي ومتقدم اجتماعيا. لقد بدأ سنكارا عهده بتطهير البلاد من الفساد البيروقراطي والمؤسسي الراسخ الجذور وخفّض رواتب الوزراء وباع أسطول السيارات المستوردة في الموكب الرئاسي، مستعيضا عنها بأرخص أنواع السيارات في بوركينو فاسو وهي الـ (رينو 5). كان راتبه 450 دولار شهريا، ورفض استخدام وحدات تكييف الهواء في مكتبه، قائلا بأنه يشعر بالذنب وهو يفعل ذلك لأن القليل جدا من شعبه يستطيع أن يملك ذلك، كما أنه رفض أن تعلق صوره في المكاتب والمؤسسات الحكومية، لأن كل بوركيني هو توماس سنكارا حسب قوله. لقد غيّر توماس سنكارا اسم بلاده من الاسم الذي فرضه المستعمر وهو (فولتا العليا) إلى اسم (بوركينا فاسو) أي أرض الرجال النزهاء.
لقد كانت إنجازات توماس سنكارا متعددة ويمكن تلخيصها بإيجاز على النحو التالي: ففي السنة الأولى من رئاسته، شرع سنكارا في مشروع غير مسبوق وهو مشروع التطعيم الجماعي للأطفال فقد شهد ذلك البرنامج تطعيم 2.5 مليون طفل بوركيني، مما ترتب عليه إنخفاض معدل الوفيات من (280) من كل (1000) طفل إلى (145) من كل (1000) طفل. كذلك نصح سنكارا المواطنين بضرورة الاعتماد على النفس وحظر استيراد العديد من المواد إلى بوركينا فاسو وشجّع على نمو الصناعات المحلية، ولم يمر على حديثه الكثير، حتى أصبح البوركينيون يرتدون قطنا وطنيا 100%، قطن جرى نسجه وتفصيله في بوركينا فاسو. من جهة أخرى بدأ سنكارا في ترقية الزراعة مطالبا شعبه بالتخلي عن أكل الأرز والحبوب المستوردة من أوروبا. وشدد قائلا إن علينا أن نستهلك ما نتحكم فيه.
في أقل من (4) سنوات أصبحت بوركينا فاسو مكتفية ذاتيا من إنتاج الطعام من خلال إعادة توزيع الأراضي من أيدي الزعماء وملاك الأراضي الفاسدين إلى المزارعين المحليين، ومن خلال آليات الري الضخمة وبرامج توزيع السماد. لقد استخدم توماس سنكارا سياسات مختلفة، وكذا مساعدات الحكومة لتشجيع البوركينيين على الحصول على التعليم، وفي أقل من سنتين من حكمه قفز الحضور إلى المدارس من نحو 10% إلى أقل بقليل من 25%، مما ترتب عليه انخفاض نسبة الأمية التي كانت بنسبة 90% عند توليه السلطة. خلال (12) شهرا من حكمه أتبع سنكارا وبقوة برنامج إعادة التشجير والذي شهد زراعة أكثر من (10) ملايين شجرة في أنحاء البلاد لوقف الزحف الصحراوي، كما شدّد سنكارا على تمكين النساء من أدء دورهن وسيّر حملات من أجل كرامة النساء في مجتمع أبوي تقليدي. لقد وظف سنكارا النساء في العديد من الوظائف الحكومية، وأعلن يوما للتضامن مع ربات المنازل بجعل أزواجهن يؤدون ذات أدوارهن لمدة (24) ساعة. كذلك شجع سنكارا البوركينيين على أن يكونوا سليمي اللياقة البدنية وقد كان يشاهد وهو يمارس رياضة الركض بشكل منتظم في شوارع (واغادوغو).
في عام 1987 وأثناء إجتماع القادة الأفارقة تحت رعاية منظمة الوحدة الأفريقية، حاول توماس سنكارا إقناع أقرانه بأن يديروا ظهرهم لديون الدول الغربية ووفقا لحديثه أنه قال “إن الدين يدار بشكل بارع لاستعادة أفريقيا.. إنه استرداد يحيل كل واحد منّا إلى عبد اقتصادي.. إن سياسات الفائدة والمساعدات قد انتهت بنا إلى تشويشنا وإخضاعنا وسلبنا الشعور بالمسؤولية تجاه شؤوننا الاقتصادية والسياسية والثقافية. لقد ااخترنا أن نخاطر بأن نمضي في مسارات جديدة لتحقيق رفاهية أفضل”. في المقابل كان سنكارا يتحدث عن (الأبارثايد) مخبرا (جاك شيراك) أثناء زيارته لبوركينا فاسو أنه من الخطأ أن يدعم حكومة (الأبارثايد) وأن عليه أن يكون مستعدا لتحمل عواقب ذلك. إن سياسات سنكارا ومواقفه المضادة للإمبريالية جعلت منه عدوا لفرنسا وهو الذي نطق بالحقيقة دون خوف ودفع حياته ثمنا لذلك. عند اغتياله فإن أغلى ما كان يمتلكه هو: سيارة، ثلاجة، ثلاثة جيتارات، موتورات سايكل، فريزر محطم ومبلغ (400) دولا.