مقالات متنوعة

د. ناهد قرناص : كبرنا وكبرت احزانا


لا شيء يعدل نسمات الصباح في ضبط المزاج وعودة التفاؤل الى الروح ..مهما فعلت فينا سخونة الجو بالليل وانقطاع الكهرباء ..استنشق نسيم الصباح ملء رئتي واسبح الباري ..يبدو ان هناك (شقشاقة) قد نزلت بمكان قريب ..ففاضت علينا بهواء بارد منعش ..عم حسن بعد ان فرغ من ملء (الازيار) ..وقف يرش امام منزله ..كان يتمتم بكلمات عندما اقتربت منه ..(سلامات يا عم ..مسكاقمي )..التحية النوبية جعلت اساريره تنفرج ..رد علي ضاحكا (ار مسكقنا؟) يسألني ان كنت بصحة جيدة ..هززت رأسي بنعم ..(مالك تتكلم براك ..)..قال لي (لا.. بس كنت بقول للواد دا ..ايه اللبس الانت لابسه دا ..مش يرفع البنطلون بتاعه شوية ..ايه دا ..هو حصل ايه في الدنيا )..كان علي ان اتلفت حولي بحثا عن (الواد دا) ..حتى رأيته مع مجموعة من الشباب كلهم يرتدون هذا البنطلون (الناصل) الذي يدعى (السيستم) ..تاااني سيستم ..من سيستم المالية لي سيستم الهدوم يا قلبي لا تحزن ..اعتقد ان الشاب لم يكلف نفسه عناء الاستجابة لمطلب عم حسن ..ربما رد عليه بطريقة هذه الايام (ماشي يا عمك) ..الطريف في الامر انني شاهدت بالامس فيلما مصريا منذ السبعينيات يظهر فيه الابطال وهم يرتدون الشارلستون ..ويفتحون أزرار القميص حتى منتصف الصدر ..شعرهم خنافس ..ضحكت في تلك المناظر وقلت لنفسي التاريخ يعيد نفسه ..كل جيل له تقليعاته ومصطلحاته التي يفهمها ..والتي يتلقى عليها النقد و(التريقة) من الجيل الذي يسبقه ..لكن الشهادة لله ..قصة السيستم دي اصلها ما جميلة …حديث عم حسن مع الشاب ..جعلني اتذكر قول صديقتي وهي تضحك ..قالت لي (عشان تعرفي انك كبرتي ..الناس غير انهم يقولوا ليك يا خالة ..كمان تلقي نفسك بقيتي تنظري للبشرية في المواصلات وفي الشارع ) ..التنظير للبشرية ..هو العلامة الفارقة للتقدم في العمر ..حيث تحس انك تملك رؤية أفضل ..وحلا لكل معضلة ..الغريب ان لا احد يعيرك انتباها ..او ربما استمعوا فقط لادبهم وبغرض (يمشوك)..تحركت من امام عم حسن ..وعندما حاذيت شارع الاسفلت اذا بي ارى ثلاثة اطفال لا يتجاوز عمر اكبرهم الحادية عشر ..كانوا جميعا يمتطون ظهر (موتر) ..اكبرهم الذي يقود يتلفت حوله بحذر لكي يدخل الشارع ..صرخت فيه (يا ولد ..انت الموتر دا بتاعك) ..التفت الي مرتجفا (لا.. بتاع اخوي الكبير ) ..قلت له وانا انظر اليه متفحصة (انت مش ولد ..هناية …امك اسمها منو يا ولد ) ..قال اسم والدته والخوف يمزقه ..قلت له بحزم ( ايوااا ..عرفتها ..هسع من دربك وانا بعاين ليك. ترجع الموتر ..والا بمشي اكلم امك )..لا لا ..ما تكلميها …تابعتهم بنظري حتى رأيتهم يدخلون احدى البيوت ..لم اتعرف على والدته عندما ذكر اسمها ..لكني وجدت نفسي في حالة من الهلع وتصور عقلي كم المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها هؤلاء الاطفال وهم يقودون الموتر دون سابق خبرة ..ودون علم اهلهم ايضا ..فجأة وجدت نفسي اضحك ..فقد ظهرت علي علامات الكبر كما قالت صديقتي ..وقتلت احلام هؤلاء الاطفال بمغامرة عنيفة حيث مارست عليهم سادية واضحة ..ارجو ان يسامحوني على التنظير للبشرية لكني متأكدة انهم في يوم ما سيفهمون ما فعلته ..عندما يتقدمون في العمر ..ايييه يبدو ان الكبر دخل خلاص ..خاصة انني سمعت عند خروجي مسجل ادم وهو يصدح (كبرنا وكبرت احزانا وانتوا كبرتو زدتو حلاا)