الصادق الرزيقي

الصحافة الملعونة ..!


> في الوقت الذي كان فيه الفريق أول مهندس عبد الرحيم محمد حسين والي الخرطوم ووزير الدفاع السابق، يتحدث في الوادي الأخضر أول من أمس عن الصحافيين ويقول إنهم خط الدفاع الأول عن الوطن وأنهم قطاع البلاغ المبين، كان بعض نواب المجلس الوطني، يلعنون الصحف ويشنون هجوماً لا مبرر له علي الصحافة والصحافيين، وهي موضة جديدة هذه الأيام طرأت على السطح السياسي، وحصان جامح أسرج عليه كثيرون وأعينهم معصوبة بالسراب، وليس هناك من حرج لدى معاشر الصحافيين في أن تقوم جهة أو أشخاص بانتقاد الصحافة وتوجيه السهام نحوها.، فالصحافة مهمتها النقد وتصويب أصابعها نحو العلل والخلل، لكن أن يقول نائب (أن الصحافة أخطر على البلاد من الحركات المسلحة)، ويدمغها بالخيانة وأنها العدو الأوحد للدولة!، فهذا وزر كبير وجريرة لا يمكن تجاوزها، وقول مليء بالتسطيح والجهل بالدور الوطني الذي تلعبه الصحافة ووظيفتها الاجتماعية ورسالتها السياسية. > فالصحافة في بلدنا وتاريخها، أقدم من تاريخ الأحزاب السياسية، نشأت الصحف قبل الأحزاب وقامت بالدور الوطني من أجل التحرر والاستقلال وبناء الوعي وإعمار الوجدان القومي، وخرج كثير من السياسيين من رواد الاستقلال والعمل الوطني من رحم الصحافة، ولاتزال هذه المهنة ولوداً.. > عندما تُلام الصحف في طريقة تغطيتها وأخبارها التي تنشرها، يجب أن يكون ذلك في حدود القياس والمعايرة المهنية والفضاء الأخلاقي والقيمي العام الذي تعيش تحته الصحافة والمجتمع ، ولا يخرج عن السياق المتعارف عليه في الأداء الصحافي، ولكن البعض يصر على أن يخضع الصحافة باستمرار لمعاييره هو، وهو يضع النظارة السوداء فوق عينيه، ويحرص أن تكون رقبة الصحافة تحت مقصلة الاتهام والتجريم ، ويعلم الصحافيون أن ذلك تعبير عن مخاوف أهل السياسة لا أكثر. فالسياسيون مخلوقات شديدة الحساسية من النقد والحقيقة وسطوع الضوء، فليس للصحافة سلطة لكنها تملك قوة الكلمة ومصباح كاشف في يدها، وللكلمة على مر التاريخ مهما كانت قامتها وخفوت صوتها تأثير لا يضاهيه شيء آخر، فمن كانت مهنته هذه الكلمة والتعامل بها ومعها، وهدفه عرض الحقيقة كما هي وكما تراها أعين الناس، فصدره بلا شك سيكون هدفاً لسهام لها ألف رام ..! > لو كان بعض نواب البرلمان على وعي بمهمة الصحافة، لترافقوا وتوافقوا معها كأداة رقابية تلعب ذات الدور الذي تقوم به البرلمانات، والصحف وما تكتبه أسرع في تشكيل الرأي العام وصناعة الصورة وتقديم البيانات والمعلومات، ولا تدعي أنها حكماً وقاضياً، فكل ما لدى الصحافي هو أوراقه وأحباره وأقلامه، وليس لديه حصانة، ولا بطانة، ولا مكانة تجعله في مأمن، لكن هذه العاصفة الهوجاء من قبل بعض البرلمانيين هو ما نشرته الصحف في الآونة الأخيرة عن مطالباتهم بزيادة مخصصاتهم وإعفاء سياراتهم من الجمارك وغيرها من الامتيازات التي لهم حق أصيل فيها، ولن يحسدهم عليها أحد، ولكن بعض نواب الشعب وممثليه لا يصدقون أن الصحافة لا تتعامل بطريقتهم وتنتصر لنفسها.. > ماذا يفعل المجتمع والساسة ونواب البرلمان، اذا صحونا جميعاً في الصباح ولم نجد الصحف على طاولات المكتبات وفي المكاتب ودوواين الدولة والشركات والمتاجر والصالونات، بجانب فناجين القهوة والشاي او على أرفف مراكز التوزيع والأكشاك، وبين أيدي الباعة من الصبية في تقاطعات الطرق والإشارات الضوئية..؟ سيفقد الجميع أهم مصادر المعلومات المفتوحة وأهم منبع يقدم الأخبار والأفكار والتحليلات والمقالات والتعليقات..؟ > الصحافة صارت ملح الحياة وعصبها، وهي أوكسجين الديمقراطية كما يقال، فمن الذي يريد حجب الأوكسجين عن رئة الأمة ..؟ مولانا علي يحيى كما عاش في الحياة، رحل بهدوء مولانا علي يحيى رئيس مجلس الولايات السابق ورئيس المحكمة الدستورية قبل سنوات خلون، مر كما تمر السحب، كأنه رفيف أجنحة طائر صغير، هذا الرجل الذي عاش عفيفاً ومات أكثر تعففاً، نوع نادر من الناس، منذ صغره تربى في بيت حكمة وتعقل ومعرفة بأحوال الناس وأقدارهم، والده كان في حكمة السلطان في الجنينة دار أندوكة بغرب دارفور، ربما جرى في دمه حب مهنة القضاء والفصل في منازعات الناس وخدمتهم عبر العدل والقانون، لذا كانت سيرته المهنية باهرة وبراقة بين أقرانه وأترابه، وكان مهموماً بالهم العام في شبابه عندما كان طالباً وحين دلف الى السياسة والعمل النيابي بأن أهدى للناس رشد تفكيره وتدبيره .. وظل بين الناس علماً وشهماً متواضعاً تواضع العلماء حيياً لا يتكبر ولا يصعِّر خده للناس.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ولا حول ولا قوة إلا بالله..