ضياء الدين بلال

الغنوشي.. (بلا أحقاد أو إقصاء)


لم أجد سياسياً بارعاً في صياغة أفكاره وبرامجه السياسية عبر أطروحات محكمة جامعة ومانعة بقدرات ومقدرات الشيخ راشد الغنوشي.
عندما تكون الرؤية واضحة والأهداف محددة بدقة يكون التعبير عنها ناصعاً بلا غباش أو تشويش ويصبح لا مجال للالتباس أو الغموض.
الأمر لا يحتاج لكثير عناء أو طول جدال لتشاركني عزيزي القارئ هذه القناعة.
عليك فقط الاطلاع على كلمة الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في افتتاح المؤتمر العاشر للحركة.
قبل انتهائك من قراءة الكلمة ستدرك أن الرجل يصعب ويضيق على خصومه السياسيين مساحات النقد والاختلاف ولا يتيح لك سوى التعامل معه باحترام وإعجاب.
خطاب الغنوشي في المؤتمر العاشر جاء شاملاً وجامعاً بلا إسهاب، كل كلمة وضعت في مكانها الذي يخدم الفكرة ويوضح الموقف بجلاء، خطاب واحد ورسائل متعددة لا تخطئ صناديق البريد.
كثيرون اختزلوا الخطاب في إعلان المفارقة بين منابر الدعوة ومجالات العمل السياسي واعتبروا ذلك بمثابة ردة عما يعرف بمشروع الإسلام السياسي أو خروج عن أطروحات المسار القديم.
صحيح في الأمر جدة وجرأة عرف بها راشد الغنوشي ولكنها لا تأتي خارج نسق أفكاره ومفاهيمه بل هي تطور لتلك الأفكار والأطروحات التي ظل يعبر عنها ويصعد بها مدارج الترقي السياسي والفكري.
في كلمته فرق الشيخ راشد الغنوشي بين أمرين: فصل الدين عن الصراع السياسي وبين إبعاد الدين عن مسارات الحياة العامة.
بكل تأكيد هنالك فرق بين الاثنين.
أراد راشد الغنوشي النأي بالدِّين عن المعارك السياسية، مع التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي، لتكون مجمعة لا مفرقة على أن يظل الدين باعثاً ومحرضاً على أفعال وقيم الخير في كل ضروب الحياة العامة بما فيها السياسة.
ووضح أن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية, ليس قراراً مسقطاً أو رضوخاً لإكراهات ظرفية، بل تتويج لمسار تاريخي تمايز فيه السياسي عن المجتمعي والثقافي عن الدعوي.
المعروف أن حركة النهضة تطورت من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية مغلقة تدعو لحماية الهوية الإسلامية إلى حركة احتجاجية شاملة في مواجهة نظامي بورقيبة وبن علي, إلى أن أصبحت حزباً ديمقراطياً بهوية إسلامية متفرغاً للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام وملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر.
حرص الغنوشي في خطابه على التمييز بين التيار الحداثي الذي تعبر عنه النهضة وبين الحركات الإسلامية المتشددة والمتطرفة حيث ترحم في مستهل كلمته على ضحايا التطرف داخل تونس وحيا دور الأجهزة النظامية في مكافحة ومحاصرة المتطرفين.
دعا الغنوشي في الكلمة للتمايز الواضح والقاطع بين من اسماهم المسلمين الديمقراطيين وتيارات التشدد والعنف التي تدعو للتغيير الثوري الفوري عبر العمل العسكري.
وأراد الغنوشي أن يؤكد أن النهضة جزء من الدولة التونسية وسند لها وليست طارئاً عليها أو خطراً يهدد وجودها.
وأنهم اختاروا خيار الخروج من الحكومة رغم كسبهم البرلماني تجنباً للانقسامات والتشظي ولتأكيد أنهم ليسوا طلاب سلطة، ولا باحثين عن هيمنة أو تفرد بالحكم.
قالها بوضوح في افتتاح المؤتمر العام العاشر لحركة النهضة : (الدولة التونسية سفينتنا التي يجب أن تحمل على ظهرها كافّة أبنائها وبناتها دون استثناء أو إقصاء أو تهميش).
وأكد في أكثر من مرة في الخطاب أن النهضة حزب وطني يغلب مصلحة تونس على مصلحته.
وأضاف في تلك الكلمة التاريخية :(عندما كنا نناقش التنازل عن حكومتنا المنتخبة, كررنا مراراً, أننا يمكن أن نخسر الحكم, لكن ستربح تونس, وأن تونس أعز علينا من أنفسنا ومن حزبنا).
ما قاله الشيخ الغنوشي في كلمته ينسجم ومساهماته بعلاقاته مع مختلف الأطراف السياسية التونسية في حلحلة بعض الإشكالات السياسية والفكرية المعقدة التي كادت تربك المرحلة الانتقالية في تونس، مثل مسألة تطبيق الشريعة وكونها مصدراً للتشريع أثناء كتابة الدستور الجديد وغيرها.
أجمل ما في كلمة الشيخ راشد الغنوشي روح التواضع والتسامح ودعوته لتجاوز مرارات الماضي وتوارث الأحقاد وفتح صفحة جديدة عنوانها (مستقبل بلا أحقاد ولا إقصاء).