منى ابوزيد

من حيث المبدأ..!


“احترس من الطبيب الشاب والحلاق العجوز” .. بنجامين فرانكلين ..!
قناة الـ (بي. بي. سي) الفضائية أجرت تحقيقاً مرئياً عن هجرة العقول الطبية الإفريقية واستقرارها في الدول الغنية، الخواجة مقدم البرنامج أسماها هجرة العقول، بينما المصطلح الأقرب لواقع الأطباء الأفارقة هو سرقة العقول، أن تترك بلادك للجهل والمرض والفقر – مكرهاً لا بطل – ميمماً وجهك شطر العالم الأول لتحقيق أقل طموحاتك المهنية وأبسط أحلامك الشخصية، على وجه ما ..!
الأطباء المحليون عندنا ثلاث فئات، (الدكاترة الكبار) الذين زرعوا غرسهم الأكاديمي أيام الزمن الجميل وجنوا قطافه أيام الزمن الرديء .. والأطباء الصغار من أولاد العز والمال، الذين ورثوا ممالك الطب كابراً عن كابر – وهؤلاء لديهم مقومات النجاح محلياً، لذلك يمكثون في البلاد، ويحققون نجاحاتهم المهنية بمعزل عن هموم الطبقة الكادحة – .. الفئة الثالثة هي السواد الأعظم، الأطباء الصغار القابضون على جمر المحلية، رغم ضعف المرتبات وقلة الحيلة وكثرة الأعباء والمنغصات و هؤلاء تجد معظمهم صاحب بالين، عقله مع المحلية وقلبه مع السفر للخارج، فتجد الواحد منهم يعمل ويدرس في آن معاً استعداداً للهجرة ..
أطباؤنا اليوم يطاردون البوردات وشهادات الكليات الملكية، ليس توسعاً في طلب العلم وترقية الأداء المهني في الداخل – لا سمح الله – بل طمعاً في تحقيق حلم العمل في بريطانيا .. آيرلندا .. أمريكا .. وحديثاً، نيوزلندة وأستراليا وكندا .. ناهيك عن الكم الهائل من أطبائنا المتميزين في الخليج وبقية الدول العربية ..!
خسارة الدولة في تأهيل طالب الطب كبيرة، وهي لا ولن تُعوَّض أبداً في مناخات الأحوال المادية والأوضاع المهنية الطاردة، وهذا – لعمري – من سوء التخطيط والتدبير ..!
ولئن سألتم عن حسن التدبير فهو أن تظهر الدولة جديَّة معقولة في تشجيع الاستثمارات الطبية، والمتاح لتحقيق ذلك كثير .. إعفاءات من الضرائب .. تسهيلات إدارية .. قوانين استثمار ذكية مواكبة .. علاقة طردية مدروسة بين حجم التسهيلات الحكومية وعدد الكيلومترات التي تبعد المشروع الطبي الخاص عن العاصمة، ثم عن أقرب مدينة كبرى .. أما لماذا فلأن التعويل على جهود الدولة في ازدهار الخدمات الصحية والطبية بالولايات والأقاليم النائية ما هو إلا تعسف مفرط في استخدام الخيال المتفاءل ..!
استرجاع العقول الطبية المسروقة والمهاجرة ليس حلماً، فالإمكانات الموضوعية موجودة، كما وأن بدائل تشجيع الطبيب المحلي على الاستقرار أيضاً ممكنة .. ليس ذلك فقط بل أن السودان يملك الإمكانات والظروف المواتية التي تؤهله ليصبح قبلة طبية لدول شرق ووسط إفريقيا ودول الساحل والصحراء .. هذا من حيث المبدأ .. أما العراقيل فابحثوا عن أسيادها ..!