الصادق الرزيقي

صراخ اليأس والأمل!


لو لم يكتب الشاعر السوري المهاجر والمقيم في لندن (نوري الجراح)، قصائد ديوانه الشعري الجديد (قارب إلى ليسبوس.. مرثية بنات نعش) وأهداها جميعها وذكر بها الغرقى السوريين في مياه البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، وهم طامحون للوصول الى جزيرة ليسبوس اليونانية, ومن ثم إلى أوروبا، وواسى بها الناجين من الغرق منهم، لو لم يهدها إلى هؤلاء، لقلنا إنها ستكون أفضل مواساة وتعبيرا عن محنة لمجموعة من الضحايا السودانيين والأفارقة الغرقى في أعماق البحر المتوسط ولإخوانهم من بقي على قيد الحياة من الناجين الذين فروا بالزوارق والمراكب من الحرب في ليبيا، عابرين بأحلامهم إلى الضفة الاخرى عند الشاطيء الشمالي للبحر المتوسط.. > ربما تكون قصائد نوري الجراح قد نثرها وقسمها بين أهله السوريين ولأولئك الافارقة والسودانيين المصدومين من الناجين الذين وصلوا إيطاليا وأفلتوا من بين فكي الموج القاتل، ثم واصلوا المسير المضني ليستقروا على أرصفة باردة صلبة تحت جسر حديدي للمترو بضاحية (دو لا شابيل) في باريس 18 شمال وسط العاصمة الفرنسية ..! > تتجسد المأساة وتمشي على قدمين هنا كأنها ستظل وحمة على جلد الزمن ووصمة على وجه التاريخ، مجموعة من الافارقة وكثير منهم سودانيون، بملابس مهترئة ومعاطف قديمة لا تقيهم برودة الطقس وزخات المطر، في هذا الحي الشعبي الباريسي، يفترشون الارض، بالقرب من أكوام القمامة النتنة المتراكمة الطافحة هذه الايام بسبب إضراب نقابة عمال النظافة، داخل سياج من الأسلاك تحت الجسر الذي يمر من فوقه مترو كهربائي قديم له صرير حاد مزعج، يتغطى بعضهم وهو نائم وصائم بخرق ممزق وأغطية من ورق وكرتون أفرغ للتو من سلع وبضائع من المحلات المجاورة، يغط ويشخر من نام منهم في نهار رمضان لعله نسي الحياة وما فيها، بينما قام البعض يصلي في جماعة وأجسادهم مرتعشة راجفة من الجوع والبرد، بينا جلس آخرون هناك قرب عمود ضخم تعلو وجوههم الحزينة صدمة لا حد لها، لا يتكلمون مع أحد، لهم نظرات مفزعة بدت فيها جراح الفجيعة ..بينما كان أصحاب الحظ منهم قد حصلوا على خيام بلاستيكية صغيرة حشروا أجسادهم المرهق داخلها بلا أمل ..! > ينتظر هؤلاء وهم بلا مأوى.. رسل منظمات فرنسية تأتي بلا ميعاد، تحمل لهم صناديق طعام وسندوتشات وربما مشروبات رخيصة رديئة التخزين، تمتهن آدميتهم أكثر، لا مراحيض ولا خدمات، ينتظرون المجهول وهم غارقون في الفراغ والعدم، تطاردهم الشرطة الفرنسية لإخراجهم من هذا المكان، بغرض تجميعهم في مكان حكومي للسكن الجماعي أشبه بالمعسكر لتقديمهم إلى المحاكم المختصة بشؤون المهاجرين غير الشرعيين للنظر في توفيق أوضاعهم مع قوانين الهجرة الفرنسية بمنحهم حق اللجوء وتوطينهم أو ترحيلهم حال عدم استطاعتهم إقناع المحكمة بحجج بقائهم على الأرض الفرنسية، وقد يطول الانتظار لمدة عام أو أكثر ..وغير مسموح لهم بالعمل.. هذا النزيف القاسي، لشباب سودانيين وأفارقة يدعون أنهم من السودان، هم ضحايا عصابات الاتجار بالبشر، ومن غررت بهم الحركات المسلحة في دارفور ودعتهم الى ليبيا للتجنيد في صفوفها, ثم واجهوا ظروفا أجبرتهم للهرب واختيار الموت غرقا في أحضان الموج وظلمة الأعماق، تلوح أحزان مُدمعة ومُبكية تستوطن وجوه هؤلاء الشباب التائهين الضائعين، بعضهم فقد الامل في الحياة. من يتلقى منهم الاعانة الشهرية من السلطات الفرنسية وهي لا تسد الرمق حفنة قليلة من اليورو، لجأ الى حيلة لا يصدقها عقل، يسجل اسمه لدى سلطة البلدية في المكان الذي يتواجد فيه وتؤخذ منه بصمة أصبعه، ثم يذهب لتسجيل اسمه لدى بلدية أخرى، لكنه يقوم بحرق أصابعه على الموقد الكهربائي حتى يطمس معالم البصمة.. حتى يحصل على عون إضافي ويزيد دخله من الإعانات، ولذلك أصدرت السلطات البلدية الفرنسية قرارا بمنع بيع هذا النوع من المواقد للأفريقيين ومن بينهم السودانيون ..! > تتجسد هنا قمة المأساة.. في رمضان لا يجدون المكان الذين يأكلون فيه، وبعضهم صائم، إما ينتظرون الإحسان الفرنسي الضئيل أو فتات المنظمات الإنسانية التي تتكسب هي بظروفهم، أو يتقاسمون ويتشاركون الأموال القليلة والشحيحة التي بين أيدهم فيجمعونها ليشتروا طعاما.!! هناك قصص محزنة.. تستمطر الأدمع وتقطع نياط القلب.. من يسام من هؤلاء يأتي لسفارة السودان يطلب عونا للعودة الى الوطن بأي ثمن، ويتم ذلك، ومن لا يأتي يظل مطاردا شريدا وحيدا في الأرصفة إما مات في فصل الشتاء مجمدا من البرد أو ظل ينضو من الجوع ويذوي من المرض حتى الموت ..يا إلهي رحمة بهؤلاء المساكين ..في لاشابيل وأكاي وفي جوف البحر..