عالمية

المشروع النووي المصري.. الملف المسكوت عنه


الرابح الأكبر من الأحلام النووية الجديدة
في عام 2011، كانت إيران هي الدولة الوحيدة في المنطقة، بخلاف إسرائيل، المالكة لمفاعل نووي عامل بالفعل، لكن في الفترة الأخيرة، بدأت عدة دول في الشرق الأوسط، تركز بشكل كبير على مجالات الطاقة النووية، وقد انتبهت شركة روس أتوم لذلك، فافتتحت مكتبًا لها في دبي بالإمارات، لتشرف على مشاريع الطاقة النووية، في البلدان المتحمسة لها بالشرق الأوسط، والتي اختارت التعاون مع الشركة الروسية، وهي حتى الآن خمس دول، إيران ومصر والسعودية والأردن وتركيا، حيث ستتم الشركة بناء أول مفاعل نووي تركي عام 2020، وأول مفاعل نووي أردني عام 2025.

وقد سار الاهتمام الكبير في المنطقة بمجالات الطاقة النووية، جنبًا إلى جنب، مع ضخ دول نووية، مثل الهند وروسيا، لاستثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية النووية، وعمومًا كانت روسيا أكبر المستفيدين من هذا الاتجاه النووي في الشرق الأوسط، حيث اتبعت إستراتيجية تصدير طموحة وفريدة، في جميع أنحاء المنطقة، وقدمت خدمات وعروض نووية، جذابة للغاية بالنسبة لحكومات الشرق الأوسط.

حيث أصبحت روسيا الآن على رأس دول العالم، في مجال تصدير تكنولوجيا الطاقة النووية للخارج، مشغلة مشاريع للطاقة النووية في الفترة الأخيرة، بـ29 دولة، منها فنلندا وبلاروسيا وبنجلاديش وفيتنام.
تقدم روسيا في عروضها فوائد واضحة لها، ولحكومات الشرق الأوسط أيضًا، فمن جانب تحصل على فائدتها هي من أرباح بيع الكهرباء، ومن توطيد علاقاتها الاقتصادية مع الحكومات الشرق أوسطية، وهو ما يستعيد لها جزءًا من مجدها السوفيتي السابق، وإبراز نفسها أكثر وأكثر كقوة كبيرة في العالم.

وعلى الجانب الآخر، ستحصل دول الشرق الأوسط على الطاقة، من مصادر مستدامة، مع تجنب تكاليف البناء الأولية الباهظة، بالإضافة إلى الوعد الروسي بتوفير فرص التدريب والتعليم، فيما يتعلق بمجال التكنولوجيا النووية، للعمال المحليين بتلك الدول.

مصر تستعيد أحلامها النووية
كان الاتحاد السوفيتي هو المساعد الأول لمصر في إنشاء مفاعلها النووي، عام 1961، وكان من المتوقع أن يتم التوسع فيه وقتها، ومع تحول مصر للتحالف مع المعسكر الغربي في سبعينيات القرن الماضي، توقف العمل تمامًا في المشروع النووي المصري، الذي كان يسانده الاتحاد السوفيتي.

ومع عودة اهتمام مصر بمجال الطاقة النووية، اتجهت مصر لروسيا مرة أخرى، لتساعدها على إتمام مشروعها.

في عام 2015، وقعت مصر وروسيا اتفاقية لإنشاء أول محطة نووية لإنتاج الكهرباء، في الضبعة، وأكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقتها، أن الهدف من ذلك هو إنشاء برنامج نووي سلمي، لإنتاج الطاقة الكهربائية، في ظل الاحتياجات المتزايدة لبلاده من الطاقة.

وقد أكد الرئيس المصري حينئذ، أنه تمت مراعاة جميع ضمانات السلامة والأمان النوويين، في الاتفاق مع الجانب الروسي.

كما أعلنت مصر في ذلك الوقت، توقيعها لاتفاقية أخرى مع موسكو، ستحصل بموجبها على قرض روسي، لتمويل إنشاء المحطة، وستستخدم مصر القرض لتمويل 85% من قيمة كل عقد، توقعه مع روسيا، يتعلق بالمحطة النووية، بينما ستتحمل سداد نسبة الـ15% المتبقية من التمويل، لصالح المؤسسات الروسية التي ستنفذ مشروعات الضبعة.

ومنذ أن تم الإعلان عن الاتفاقية، أثارت بعض الانتقادات في الداخل المصري، منها ما أعربت عنه الباحثة الاقتصادية، سلمى حسين، حيث قالت: «هذا الاتفاق يُظهر أن مصر تتجه للاعتماد على قروض ثنائية ضخمة، بدلًا من القروض متعددة الجنسيات، وهي خطوة تتسم بالتسرع، وقد تكون مدفوعة بالرغبة في كسب الولاء السياسي. وخطر تركيز الاقتراض لدى بلد واحد، هو أن الموقف التفاوضي الروسي على شروط إنشاء المشروع، سيكون قويًا للغاية، نظرًا لأن روسيا هي من تقوم بتمويله، ومن الطبيعي أن تعمل روسيا على وضع كل الشروط التي تفيد شركات بلدها، حتى وإن كان ذلك ضد المصالح المصرية، في مجالات مثل الشروط البيئية».

في حين أيدت أطراف مصرية عديدة الاتفاق، مؤكدة أنه حين تنشأ المحطة النووية، سيتم بيع الكهرباء المنتجة منها، وستسدد مصر قروضها من هذا البيع، حيث إن سعر الكهرباء زاد ثلاثة أضعاف، خلال السنوات القليلة الماضية، بالتالي سيكون السداد من الدخل المنتج من المحطة، وليس من خزانة الدولة وضرائب المواطن.

صفحة «الموقف المصري».. الانتقاد الأكثر رصانة

في الأيام القليلة الماضية، طرحت صفحة «الموقف المصري»، واسعة الانتشار بين الشباب المصري، على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، مجموعة أسئلة وانتقادات لمشروع الضبعة، وقارنت بين المشروع ونظيره التركي، فيما نظر إليه العديد من المتابعين، على أنه أول نقد جاد وعلمي للمشروع.
انتقد الصفحة في بداية منشورها، طريقة تعامل الدولة مع المشروع، بشكلٍ خالٍ من الشفافية، واتباعها طريقة الحكم الفردي، وانعدام الشراكة مع الشعب والمتخصصين، فيما يخص المشروع.

وانطلقت من التشابه التام بين المحطتين المصرية والتركية، حيث إن كلتيهما ستولدان طاقة كهربائية بقدرة 4800 ميجا، وكل واحدة منهما بها أربعة مفاعلات، كل مفاعل ينتج 1200 ميجا وات، وكلتيهما بها نفس طراز المفاعلات: VVER موديل 2006، الجيل الثالث.

ثم بدأ الصفحة في إظهار الاختلافات، بين الفوائد التي استطاعت تركيا أن تحصل عليها في مشروعها، ولم تستطع الإدارة المصرية الحصول عليها.

أولًا: من حيث فرق التكلفة، حيث سيتكلف إنشاء المحطة النووية التركية 20 مليار دولار، في حين سيتكلف المشروع المصري 29.4 مليار دولار، وهو فرق غير متفهم بحسب المنشور، لأن المشروعين متطابقين، ورفضت الصفحة هنا مبرر انخفاض قيمة الروبل أمام الدولار، حيث إن الانخفاض الكبير للروبل، من المفترض أن يخفض قيمة ما ستدفعه مصر بالدولار، لأن صناعة المفاعلات ستتم في روسيا، ولن تستورد فيها شيئًا من الخارج.

وأكد الصفحة أن تسعة مليارات دولار هو مبلغ ضخم، حيث إن ميزانية التعليم في مصر، في العام المالي الماضي، بلغت كلها 76 مليار جنيه مصري فقط، وبلغت ميزانية الصحة 48.5 مليار جنيه مصري فقط، أي نصف المبلغ المذكور تقريبًا.

بالتالي طرحت الصفحة على الدولة سؤالًا هامًا: هل هذا الفرق يعود إلى «صفقة سياسية ما»، غير معلنة؟

كما وجهت الصفحة أسئلة متعلقة بطريقة الدفع، حيث سيتم دفع تكلفة المحطة المصرية عبر قرض ضخم، ستتحمله الأجيال القادمة، حتى وإن كانت شروط القرض في حد ذاتها جيدة، حيث سيسدد أول قرض في عام 2029، على أقساط تمتد لـ 22 عامًا، بفائدة 3% سنويًا، ثم ذكرت الصفحة أوجه فوائد تركيا في صفقتها، وهي فوائد لم تستطع مصر الحصول عليها.

تم الاتفاق في الصفقة التركية على أن تُنشأ محطتها بنظام BOT «البناء، التملك، التشغيل»، واختارت دول أخرى أيضًا بالمنطقة أن تقيم مشروعها بنظام BOO «البناء والتشغيل ونقل الملكية».

في اتفاقها، لن تدفع الحكومة التركية، تكاليف المحطة ولا تملكها، ولكن ستتشكل شركة مساهمة تملك المحطة، وشركة روس أتوم ستتحمل 93% من رأس المال، ويُتاح لشركاء الدخول بوصفهم مستثمرين، وسيتم تعويض التكلفة من بيع الكهرباء، ومن ثم لن تدفع تركيا أي قرض فيما يخص إنشاء المحطة، ولكنها ستدفع مقابل الكهرباء نفسه، ومن ثم، سيصبح لدى الشركة الروسية دافعًا قويًا، لإنهاء العمل سريعًا.

وسيكون للشركة الروسية الحق في بيع نسبة من الأسهم، بشرط موافقة تركيا على المشترين، وبالفعل في مايو الماضي تم طرح 49% من الأسهم للبيع، وتجري حاليًا مفاوضات مع شركة الإنشاءات التركية، جنكيز، لشراء الأسهم، وهي شركة قطاع خاص يملكها رجل الأعمال، محمد جنكيز، المُقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم.

وبعد 15 عامًا من بدء تشغيل المحطة، وهي الفترة المتوقع أن تغطي فيها الأرباح قدرًا كبيرًا من تكاليف البناء، ستلتزم الشركة الروسية بإعطاء 20% من أرباحها من المشروع، للحكومة التركية.

وبعد مرور 50 إلى 60 عامًا، حين تنتهي صلاحية المفاعل، يشتمل الاتفاق التركي على أمر هام للغاية، وهو تكليف الشركة الروسية حينها بوقف تشغيل المفاعل، بشكل آمن، وإخراجه من الخدمة.

بموجب الاتفاق بين تركيا وروسيا، ذهبت خمس مجموعات حتى الآن، من الطلاب الأتراك، للجامعة الوطنية للبحوث النووية الروسية، وبعد أن أنهوا دراستهم، تلقوا تدريبات تابعة لشركة روس أتوم، ليصبحوا فيما بعد شركاء في الفريق الذي يدير المفاعل، علمًا بأن الشركات التركية ستشارك في التجهيز التكنولوجي للمشروع، بشكل يسمح لها بالاشتراك الجاد، في كل مراحل المفاعل النووي فيما بعد، منذ بدء التشغيل وحتى انتهاء الصلاحية، بالإضافة إلى أن الشركات التركية ستبني كل الأجزاء غير النووية من المشروع، بموجب الاتفاق.

من هذا المنطلق طرحت الصفحة أسئلتها: لماذا لم تجر مصر اتفاقًا مشابهًا لبقية دول المنطقة، يجنبها القروض المقللة من تصنيفاتها الاقتصادية؟، وما هي تفاصيل الاتفاق بين الجانبين المصري والروسي، فيما يخص التخلص من النفايات النووية؟ وما هي تفاصيل تدريب الكوادر المصرية؟، ولماذا لم تأخذ مصر من روسيا معاملة شبيهة بتلك التي أخذتها تركيا؟، رغم أن العلاقة السياسية بين مصر وروسيا، حاليًا، أقوى من العلاقة الروسية التركية، كما هو مفترض.

المشروع النووي المصري.. ممنوع النقاش

أهم سؤال طرحته صفحة «الموقف المصري» في منشورها هو: «لماذا لا توجد شفافية في الإفصاح عن تفاصيل الاتفاق المصري الروسي، سواء قبل التوقيع أو بعده، في حين أنه فيما يتعلق بالاتفاق التركي الروسي، يوجد موقع رسمي للمحطة النووية التركية، يعرض كل الأخبار بالتفصيل أولًا بأول؟».
في الواقع، فحتى ما طُرح من تساؤلات وانتقادات جادة، في منشور «الموقف المصري»، الذي لقي رواجًا ملحوظًا على فيسبوك، لم يجد أدنى اهتمام من وسائل الإعلام المصرية، وكأنه يوجد «أمر من أعلى» بمنع طرح أي شيء، يتعلق بالملف النووي المصري، وعرضه للنقاش.

ربما يعود ذلك الخوف الإعلامي المصري، إلى تحذير الدولة المصرية المبطن للإعلام، من إجراء أي نقاش حقيقي ومفتوح، حول ملف مصر النووي، حيث سربت الدولة خبرًا، في عام 2015، نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط، يقول: «قد تقرر حظر النشر، في ما يتعلق بمشروع المحطة النووية بالضبعة، إلا بعد الرجوع إلى الجهات الأمنية المعنية، ومكتب السيد وزير الكهرباء»، دون أن يوضح الخبر مصدر القرار ولا مبرراته، خبر نقلته معظم الصحف والمواقع الإخبارية المصرية بعد ذلك.

وقد صرح بعد ذلك مسؤول في وكالة أنباء الشرق الأوسط، لـ «مدى مصر» قائلًا: «إن الخبر الذي نشرته الوكالة، حول حظر النشر في مشروع مفاعل الضبعة النووي، لا يستند لمصدر في جهة قضائية أصلًا، بل أملت جهة إدارية القرار شفويًا، على أحد محرري الوكالة، دون بيان رسمي».

لهذا السبب، يصبح التساؤل الأكثر أهمية في كل تساؤلات «الموقف المصري»: لماذا تتخوف الدولة بهذا الشكل، من إشراك الشعب بشفافية، في ملفه النووي؟

ساسة بوست