تحقيقات وتقارير

كمال الجزولي في خيمة الصحافيين السودانيين في مؤانسة ممتعة وشيقة.. ومن سيرته المبكرة في الحي الأمدرماني العريق يمضي موغلاً في التفاصيل إلى الرياضة والغناء والسياسة والمجتمع والأصدقاء


أم درمان تأتيك في قطار الثامنة ولكنه بتوقيت غرينتش، قطار أم درمان هذه المرة يأتي محملاً بالمختلف، (بضاعة) فقط، لا يمكن أن تسبقها إلا بعبارة صنع في السودان، يمكن أن يساعدك هذه المرة الفنان عمر إحساس وهو يغني (دارفور بلدنا سودان وطنا)، وقبل كل ذلك (كمال ولدنا).
كمال الجزولي في خيمة الصحافيين السودانيين في مؤانسة تفاعلت معها حتى الطبيعة فأرسلت سماء الخرطوم زخاتها لتجبر الجميع على الولوج إلى الداخل وكأنها تخبرهم أن صاحب (الصنائع) المتعددة مكانها (جوة القلوب)، وأن ما يأتي يجب أن ينصت له بالجوارح كلها.

()
يقدمه فيصل محمد صالح وسط حضور كثيف داخل فندق (ريجنسي) وتظلله الحيرة ترى من أي الأبواب يمكننا الدخول على الجزولي؟ هو قانوني مجيد وسياسي ضليع مناضل بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، شاعر يجيد نظم الحرف وكاتب لا يشق له غبار بأي الاتجاهات هززت شجرة كمال فإنها تساقط عليك ثمراً جنياً هو متعدد أوجه الإبداع يترك له المايكرفون لتكتشف أن كمال (وناس) من الدرجة الأولى أو كما قال هو، هنا من أجل (الونسة) لا شيء آخر ومن ثم مضى ليقلب روزنامة حياته خلال ساعتين وبضع دقائق مضت سريعاً في تجاوب منقطع النظير حيث بدا الجزولي بفرحة العائد إلى الحياة يحكي تفاصيل حياته مقلباً كل جوانبها، أفراحها وأحزانها وضحكاتها المسروقة وفي الوقت ذاته يحكي تقلبات وطن يتلبس رجل.

السبت
هنا أم درمان في إحدى حاراتها ولد الجزولي الذي وصف نفسه بالمحظوظ كونه ولد في حارة أطلق عليها (حارة المغنى) ربما في أكثر الأماكن ضجيجاً في أم درمان بعد تمددها.. قضي الجزولي حياته الأولى مستمتعاً في الحارة المحصورة بين البوستة ومنزل عبد الله خليل وبيت الزعيم الأزهري وصولا إلى مكي ونادي الخريجين والبوستة، في هذه المنطقة قضى طفولته الباكرة.
يستدعى الجزولي أسماء رفاق الطفولة ويتوقف كثيراً عند صديقه الفنان كمال ترباس الطفل الممتلئ لطفاً على سبيل الفخر، يقول: إنه ولد في الحي الذي عاش فيه سرور وكرومة، وما يدهش هنا أن المنزل الذي قطن فيه ترباس كان مجاوراً لآخر سكن فيه كرومة، يضيف أنه الوحيد من المثقفين الذي يضع شريط ترباس بارزا في (طبلون) سيارته، إذ كان مصدر متعتهم الطفولية فحين كان يقف الكبار للاستماع إلى أغانيه في زمن تهميش الأطفال، في ذلك الوقت، يستطرد كمال: “كنا شغالين ليهو شيالين”.

الأحد
لم تنته حكاية رفقة الطفولة فهناك النجم الدحيش وسليمان وحكاية مربى الراحل إبراهيم عبد الله خليل والمواقف التي ارتبطت بها.. الجزولي يقول إنه كان لاعب كرة مميزا ووقع لنادي الأهلي العاصمي وفي أول تمرين تداخل معه أحد المدافعين وأصابه في ركبته بعدها ترك الميادين الخضراء ومضى في ميادين أخرى.
الأحد.. كمال أول من أدخل كتابة التشكيل في الصحافة السودانية يرد ذلك الأمر إلى طفولته الباكرة وتحديداً دراسته في خلوة الفكي أزرق.. كمال يقول إن (حكاية الروضة دي ما واقعة ليهو) وهو ممتن جداً لما أضافته له مرحلة القراءة في الخلوة والتي انتقل منها لمدرسة الشيخ الشبلي وبعدها درس في مدرسة (السور) بعد منزل الزعيم الأزهري في وقت لم ترتفع فيه بعض قواعد كوبري شمبات ويحكي هنا تتلمذه على يد الأستاذ خالد أبو الروس ويقول إن (قصة أبو الروس دي ما كانت واقعة ليهو) ويظن أن خلفها حكاية لدرجة أنه جاءه مرة في كابوس (برأس كبير ورجلين رقاق) وهو ما أدخله في نوبات صراخ طويلة لم تغادره إلا بعد تدخل الشيوخ وإقامة حفل زار من أجل هذه الغاية.. بعدها انتقل إلى مدرسة النصر الوسطى حيث كانت كل الأشياء متوفرة لدرجة أنه كانت هناك (حواشة) لكل تلميذ وفي هذه المرحلة بدأت تتفتح الأشياء شيئاً فشيئا.
قبل أن يغادر هذه المرحلة يقلب كمال حكايته مع كراهية الرياضيات ودخوله في أول تجربة للدروس الخصوصية مع أستاذ عطية المصري حيث تم التعاقد معه على خمسة جنيهات من أجل توطيد العلاقة بيني والحساب وهي معادلة استفاد منها أستاذ عطية حيث وفرت له وجبة غداء يومية المدهش أن القصة انتهت بفصل الأستاذ من التدريس يقول: “عندما اقتربت لحظة الامتحان جاء وكتب مجموعة من المعادلات وطالبني بحفظها، وهي ذات مسائل الامتحان، بعد مغادرته (ركبت عجلتي) في اتجاه (عتاولة) الفصل الذين لا يفقهون في الحساب شيئا وبدأنا الحفظ بعد النتيجة كانت درجاتنا بين الثلاثينيات والأربعينايت وهو ما أثار المدير الذي اكتشف الأمر في نهاية المطاف وتم فصل أستاذ عطية ولم تنصلح علاقتي مع الرياضيات”..

الاثنين
ترى كيف صار الجزولي زميلاً؟ السؤال يضعه فيصل محمد صالح في الطاولة قبل أن يغادر المنصة تاركاً إياها للفنان عمر إحساس.. نعود في انتظار الزميل لنكتشف أول الحكاية أن صاحب الروزنامة وكتاب الشيوعيين السودانيين كان في الأصل (أخو مسلم)! يقول كمال إن أول ولوج له إلى بلاط السياسة كان من بوابة الإخوان المسلمين وأن الأمر يعود لخاله صادق عبد الله عبد الماجد والإعلامي إسماعيل طه وقال إنهم جندوه لكارزيميته وتأثيره لكنه لم يستمر معهم طويلاً ويرجع ذلك لنقاش كان في إحدى المدارس وتم تكليفه بالحديث حول الاختلاط في مواجهة طالبة قال إنها أثناء المناظرة (مسحت به الأرض) وبدأ يبحث في طريق للمخارجة بعد الاستهزاء الذي وجده في تلك الليلة وفعلاً كانت تلك آخر علاقته مع الإخوان المسلمين وكان أكثر ما يخشاه ردة فعل إسماعيل طه وقال: “بعد عودته سألني إنت لسة ولا غادرت الجماعة؟” وعندما قلت له غادرتهم قال لي (مبروك) بعد أن غادرت الإخوان ظللت في الرصيف قبل أن أتركه وأنضم لحزب الأمة أنا وعدداً من الشباب.. كنت حزب أمة جناح الإمام الصادق في معركته ضد الإمام الهادي ودعمناه لأقصى حد قبل أن تتم دعوتنا لاجتماع أعلن فيه الصادق عودة الوئام بينه والإمام الهادي عندها رفعت يدي وطرحت عليه السؤال: إنتوا فرتقتوه أول ليه ووحدتوه هسه عشان شنو؟ الصادق أجاب على كل الأسئلة إلا سؤالي عندها غادرت الأمة ودون رجعة وما أزال في انتظار الإجابة على السؤال.

الثلاثاء
الطريق والمعبر نحو الحزب الشيوعي مفروش بالثقافة والمنطلق.. إلى ذلك كانت القراءة واستلاف الكتب من أعضاء وشباب الحزب يقول إن أول كتاب قرأه كان عن الماركسية والمسألة القومية، كان لجاذبية احترام التعددية الثقافية الدور الكبير في فتح المدارك وكثير من الأبواب المغلقة ولا يخفي الجزولي أن الراحل عبد الخالق محجوب لعب دوراً كبيراً في هذا الجانب وذلك من خلال تعاطيه مع المبدعين والمثقفين بشكل عام فقد كانوا أشبه بطبقة خاصة لا يشترط عليها الارتباط بفرعية أو دفع الاشتراكات فهو يقربهم إليه يقول إن طبقته ساعتئذٍ كان فيها علي عبد القيوم وعبد الله علي ابراهيم عبد الباسط سبدرات وخالد المبارك ومصطفى نورين.. يقول إنه كان حالة شاذة فلم يتقدم بطلب للانضمام ولم يثنه أحد ويعتبر أن بداياته الحقيقية كانت من خلال حملة عبد الخالق محجوب الانتخابية في الدائرة وهي التي شهدت ظهوره الأول متحدثاً تحت لافتة الحزب الشيوعي السوداني حيث اختاره عبد الخالق وأرسل إليه من يخبره بالأمر وهو ما وضعه في امتحان صعب للحديث في الليلة السياسية الكبرى ويقول: حين ذهبت متحججاً بأنني ما زلت صغيراً ولم أخبر بعد دروب الحزب أخبرني بأنه عندما كان في عمري كان سكرتيرا عاماً للحزب وأنه عليّ خوض التجربة بعدها توكلت على الله وذهبت لأتحدث في موضوع الماركسية والدين وكانت ردة فعل عبد الخالق على حديثي بـ(إكسلانت) مما دفع عبد الله علي إبراهيم للتعليق بقوله “من (إكسلانت) ديك وعيك”..

الأربعاء
الجزولي في كونه صحفياً، يقول إن دخوله للعمل الصحفي انطلق منذ المرحلة الثانوية وتواصل في فترة دراسته للقانون في جامعة القاهرة فرع الخرطوم وذلك عبر صحيفة السودان الجديد حيث كان يحرر صفحة مشاتل الفيروز بمعية آسيا عباس شقيقة الصحفية آمال عباس بعدها أسس رحمي سليمان صحيفة الاخبار وطالب الجزولي بالعمل معه وهو الأمر الذي استدعي حكاية دعوة عشاء للمثقفين في مطعم كيشو في شارع الحرية وهو صاحب الدعاية الاشهر (يخدمكم الطباخ الخاص للملك فاروق عبر وجبة بيض الأوز في أحشاء الكراكر) وبعد العشاء جاء لرحمي بفاتورة تفوق ثمن الصحيفة مكتملة يقول: المفارقة أنه بعد انتهاء الشهر الأول والذهاب لاستلام مرتباتنا كان رد رحمي بأن المرتب ضاع في ثمن وجبة بيض الاوز في أحشاء الكراكر.. بعدها التحق الجزولي بوكالة أنباء أفريقيا الجديدة هنا.. يحكي كمال قصة التداخل بين المهنية والانتماء السياسي وهي فترة الجدل حول المؤتمر الدستوري ومشاركة الحزب الشيوعي من عدمها وعندما سأل عبد الخالق أجابه: لو قلنا داخلين المؤتمر لانتهي كل شيء علينا أن نصمت الآن لحين، ولكن في أحد نبطشياتي وجدت خبرا منسوبا لأحد أعضاء اللجنة المركزية يعلن دخول الحزب اللجنة فاتصلت بعبد الخالق ورد بأن عليّ التصرف باعتباري صحفيا فقدمت رشوة لأحد موظفي المطبعة الذي قام بمسح الخبر من النشرة وعند عودتي إلى العمل صباحاً سألتني موظفة الحسابات عما حدث توجهت بعدها إلى الدرج وحملت متعلقاتي ووجدت مدير الوكالة يخبرني بالاستغناء عني بعد أن تم تسليمي مرتب الشهر البالغ 15 جنيهاً.. المهم هنا هو القول بأن المهنية الصحفية يجب أن تعلو على ما دونها.. يمضي: عموماً الفصل من الوكالة كان مدخلي إلى صحيفة الحزب الشيوعي التي تحول اسمها من الميدان إلى الضياء بفعل قرارات الحل وبأمر مباشر من عبد الخالق محجوب.

الخميس
كنت ساعتها طالباً للقانون بجامعة القاهرة فرع الخرطوم قبل إخباري بالاستعداد للسفر إلى موسكو للدراسة هناك.. الأمر أيضاً تم ترتيبه من قبل عبد الخالق محجوب والذي كان يريد إبعادي من حالة الاستقطاب الحادة التي كانت تدور في أوساط الشيوعي حينها، كانت رحلة الاتجاه نحو تلك الأصقاع الباردة تجربة أخرى تزامنت وتجربة أحداث يوليو 1971 يقول إنه قام باستلام تذاكر سفره من سعاد إبراهيم أحمد ولكنها اشترطت عليه إحضار أحد الشباب من أبناء الأقاليم لمرافقته وهو شاب لم يكن يعرفه في الأصل واختاره أن يكون ضامناً له وجلس في انتظاره إلى أن جاءوه في المنزل ومن ثم غادروا. لا يخفي عدم إحساسه بالراحة ساعتها من تزمت الزميل المرافق له واحتجاجه على كل شيء لدرجة تهديده بتقديم بلاغات حين تأخر من يجب عليه استقبالهم في المطار عندها طالبه كمال بفتح بلاغ ضد فرعية الحزب بالمطار في (كييف).. بدأت معه معاناة من نوع آخر تتعلق بضرورة تعلم اللغة الروسية الصعبة والقيام بأعبائه الخاصة في ذات الوقت لدرجة فكر معها في العودة إلى السودان قبل أن يبدأ في التأقلم مع الأوضاع في تلك الفترة بدأت المشكلات تحيط بالحزب في الداخل عقب الانقلاب والانقلاب المضاد مع غياب تام للمعلومات عنهم يقول إنهم في روسيا وصلتهم الورقتان الخاصة باطراف الأزمة معاوية سورج وورقة عبد الخالق محجوب وأن كثيرين منهم اختاروا معسكر عبد الخالق واختارت فاطمة عبد المحمود معسكر سورج بعدها بدأت تأتيهم أخبار الإعدامات وهي الفترة التي أنجزوا فيها أكبر مسيرة للتضامن شهدتها الشوارع الروسية وحملوا فيها صور عبد الخالق والشفيع هي ذاتها الفترة التي التقى فيها بالشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى وتركت أحزانها على قلبه يقول كمال وهو يكاد يخفي دمعة أن أبو ذكرى انتحر وأن واجبه هو أن يقول ذلك وأن يكشف للناس ما حدث. عندها يوفر فيصل محمد صالح للجميع مساحة للارتياح بعيداً عن الحزن ومع كلمات الشاعر الجزولي.

الجمعة
السيدة فائزة حسين رفيقة الجزولي تجلس أمام المنصة برفقة ابنها (أُبي)، كمال وحين سؤاله عنها يكتفي بالقول إنها اختارت السكني في عميق القلب وأصبحت سيدة كتابات الشعر وطيف الفرح الذي يأتي في زمان السجون ومع فائزة حسين تاتي ذكرى محجوب شريف يعجز عندها أخو أميرة عن القول ويكتفي بأن محجوب مثل الأخ الصديق فأي قول يمكن أن يضاف بعدها يستعيد بعض التفاصيل بينهما حين يذكر قصة (القميص) الذي كانا يتبادلان عبره الرسائل داخل سجن كوبر حين تم التفريق بينهما في الزنازين يقول إن هذا القميص تم عرضه في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي وبعدها اختفى دون تفسير..

تنتهي المؤانسة ولا تنتهي حين يقول الجزولي الذي اختار عمر إحساس فناناً لليلته: لو خيرت مرة أخرى لما اخترت سواه وإن شهاداته تظل مجروحة في اهل الغرب وفي دارفور وإن ما تبقى من عمره سينذره كله من أجل تحقيق السلام في تلك البقعة الحبيبة وفي كل أرض السودان .

الخرطوم – الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي