أبشر الماحي الصائم

أيام معدودات


برغم إن الأيام المعدودات.. بحسب أهل اللغة.. هي التي تعد على أصابع اليدين، بمعنى أنها دون العشرة، إلا أننا نجد أن القرآن الكريم قد أطلق على شهر بأكمله ثلاثين يوماً وصف.. “أياما معدودات”.. فلعمري لم يكن ذلك إلا إمعانا في أدب “التبسيط والتيسير والتهوين والتذلبل”.. يقلله في أعينكم.. على أنها أياما معدودات سرعان ما تنتهي، وهذا تماما هو إحساسنا اليوم 26 رمضان.. سبحان الله.. كيف تسارعت تلك الأيام المعدودات !!
* ومن جهة حسابية ثانية.. ربما تشير أيضاً أدبيات (الأيام المعدودات) إلى إحساس الصائم بقيمة الزمن.. عندما تعد أوقات شهر رمضان باليوم والساعة والدقيقة.. وربما بالثانية عندما يقترب موعد الأذان.. كأن يقول أحدهم تبقى لموعد الأذان نصف دقيقة!! هكذا الأشياء الثمينة في حياتنا يكون لها قيمة مضافة !! فالسودانيون يطلقون على شهر شعبان (شهر قصير) وهو الشهر التي تكاد لا تعد أيامه، في مقابل ترقب لشهر معدود !!
* في هذا السياق أطربني حديث عن قيمة الزمن الرمضاني للروائي السوداني الراحل الطيب صالح.. طيب الله ثراه وغفر له خطاياه.. يقول فيه.. “قد ينسى المرء بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة، كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة، فالأيام العادية تمضي تباعاً طوال العام.. لا يكاد الإنسان يحس بمرورها.. كأن الزمن نهر سرمدي.. ولكن يوم الصائم – وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها.. الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه (كم) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس.. يختلط جوعه وظمأه – خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً – مع كل دقيقة تمر. يكونان عجينة من المكابدة والسعادة.. فإذا انقضى اليوم، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته.. وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنه عسير المراس.. هكذا ننتظر ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا – (الله أكبر) معلناً نهاية اليوم.. وكنت في تلك الأيام قبل – أن يقسو القلب ويتبلد الشعور – أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، إنني انتصرت على نفسي”.
* إذا انتهى العارفون إلى أن الغاية من شهر رمضان – والحديث لمؤسسة الملاذات – الجناح الفكري.. تتمحور حول (لعلكم تتقون).. أي لعلكم تستمرون بقية حياتكم بزاد تقوي رمضان!! أنتهي أنا في المقابل.. في هذا السياق.. إلى طرح هذا السؤال الزمني.. هل يا ترى نستطيع نحن في المقابل أن نستمر بعملية (حساسية الزمن) هذه!! على أن العمر كله يفترض أنه.. (أيام معدودات).. فكما انقضى شهر رمضان تنقضي الأعمار!! ومن ثم تنقضي هذه الحياة.. الإحساس الذي يجعلنا لا نتقاتل ولا نتحاسد ولا تتنافس في عرضها الزائل، وذلك مقابل إعمارها بالهدى والتقى والإيمان والمحبة..
* نسأل الله تعالى القبول والتوفيق وتوظيف الوقت لما فيه الخير من العمل الصالح والإنتاج.