أم وضاح

واتفرج يا سلام!!


ملاحظة ربما تكون قد فاتت على الكثيرين أو تعدوها بالنظر ومروا عليها مرور الكرام، لأنها أصبحت تشكل ملمحاً من ملامح نص الخرطوم نهاراً وعصراً، والظاهرة لمن لم يلاحظها هي تكدس أعداد كبيرة من عربات الملاكي بالقرب من المواقف والمؤسسات، لتعمل كعربات أجرة يقودها أشخاص تختلف أعمارهم ما بين الشباب ومن هم أكبر من ذلك، بعضهم يرفع علامة الأجرة على سقف عربته، وآخرون ينادون على المارة بشيء من الحياء والخجل ولكأنهم يرتكبون خطأ ما.
أمس وأنا أمر بالقرب من مول الواحة لفتني أحدهم وهو يقف بالقرب من سيارته قائلاً أجرة يا أستاذة، ولما سكت للحظات ظن الرجل أنني توجست منه أو أضمرت شيئاً ما فعاجلني قائلاً، يا أستاذة العربة دي وكل العربات التي ترينها هي عربات ملاكي لموظفين يعملون عليها بعد انتهاء الدوام وأنتِ عارفة الظروف شكلها شنو، فسألته وقد كانت الساعة تشير للثالثة، طيب إنتو موظفين متين الدوام انتهى لتتفرغوا لهذا العمل الخاص؟ وكانت إجابته نصف ضحكة ساخرة وبعدها قال لا لا خلصنا هو ذاتوا دوام شنو بعد الساعة اثنين! وبصراحة الظاهرة في حد ذاتها تشير إلى مؤشرات غاية في الخطورة، أولها وأهمها أن الطبقة الوسطى من الموظفين وربما الأرفع درجة من ذلك بقليل، بدلالة ما يمتلكونه من سيارات، أصبحت في خطر وعلى مرمى من نيران الأزمة الاقتصادية التي جعلتهم يفكرون في أقرب وأقصر وسيلة لكسب الرزق بتأجير عرباتهم الخاصة وتحويلها إلى مركبات عامة، وهو ما يفضح حجم الأزمة التي يعيشها الإنسان السوداني ولقمة العيش لأسرة صغيرة ما عادت تغطيها مهنة واحدة ولا حتى مهنتان.
لكن السؤال الحقيقي طيب والما عندو عربية يأجرها بعد العمل يسوي شنو؟؟ حاجة ثانية ومهمة إذا كان الموظف يخرج من عمله قبل الثانية ويعمل سائقاً لما تبقى من يومه، كيف سيذهب صباح اليوم التالي إلى مكتبه خالي الذهن مرتاح الجسد ليؤدي عمل الحكومة ويحرك دولاب مهامه ومسؤولياته.
والأهم وأكثر أن إغراق سوق المواصلات العامة بهذه الأساطيل من السيارات سيؤدي بالتأكيد إلى عطالة أصحاب المهنة الحقيقية، وأقصد التاكسيات والأمجاد وما شابه الذين يتعايشون بالفعل من هذه المهنة ولا يملكون وسيلة غيرها!!
الدايرة أقوله إن المتغيرات التي حدثت في المجتمع السوداني جراء الظروف الاقتصادية التي عصفت به وحولت كثيراً من الثوابت إلى متغيرات تتقهقر للأسف إلى الخلف بشكل كبير، أفرزت مثل هذه الظواهر التي لا يمكن أن تمر دون أن يكون لها أثرها السالب على المجتمع برمته، ومثلها ظواهر أخرى أخطر وأكبر من تأجير العربات الملاكي، قد تكون السبب في تحويل كثير من الاتجاهات الموجبة إلى خانة السالب، لتهدد بذلك نسيج المجتمع السوداني المعروف عنه خصال وصفات لا توجد في مجتمعات أخرى، ويكفي دلالة على ذلك أن أشير إلى حديث متحدثة عبر أحد البرامج التلفزيونية قالت فيه تعليقاً على أزمة الخبز، إنهم باتوا يخشون ويتحاشون الضيوف حتى لو كانوا أقرب المقربين لهم، لأن الميزانية لا تسمح واتفرج يا سلام.
كلمة عزيزة
كثيراً إن لم يكن غالباً ما أكتب عن النواقص ومظاهر الإخفاق في كثير من المؤسسات، لكن هذا لا يعني أن نغمض أعيننا عن الإشراقات التي نلتقطها هنا وهناك، أمس الأول حدثني شاب مقيم في أوروبا ويدرس هناك، جاء لقضاء عطلة العيد مع أسرته وحين عودته عبر مطار الخرطوم حدثت له إشكالية عبر الخطوط التي يسافر عليها مما (لخبط) حساباته تماماً، وقد كان يفترض أن يغادر إلى “مدريد” عبر طيران آخر. حدثني الشاب عن كيف وجد كل الاهتمام والمتابعة من المسؤول عن مطار الخرطوم في تلك الوردية، واسمه “موسى جبريل” ومعه طاقمه من الشباب الذين انحازوا بالكامل للشاب عند محاولة موظفة الخطوط ممارسة (اللولوة) معه، وقال لها بالحرف الواحد أنا هنا لخدمة الموظف وهذا المطار مفتوح لأجله حتى حُلت مشكلة الشاب وغادر إلى حيث وجهته.
فالتحية للأخ “موسى جبريل” ورفاقه لأنه وكما وصفه محدثي لو كل موظف في مكانه بهمته ونشاطه لانعدل حال البلد!!
كلمة أعز
لم تحدث نكسة المستشفيات بولاية الخرطوم إلا بعد أيلولتها للوزارة الولائية وكثير من المستشفيات ظلت مرجعاً ومزاراً للمرضى وتعمل بكفاءة حتى أصابها الطوفان، وطالما أن هذه التجربة قد فشلت فأنا تماماً مع إعادة المستشفيات إلى حضن الوزارة الاتحادية التي قصقصت أجنحتها وأصبحت بلا وجود.