الطيب مصطفى

من يقتصُّ لنا من بريطانيا؟! (2-2)


ولا نزال نُسبِر غوْر الظلم البريطاني في بعض محطات التاريخ الإنساني بعد أن حكينا نماذج من الغطرسة والعجرفة التي أصابتنا على المستوى الشخصي. لن أخوض في الجرائم التي ولغت فيها بريطانيا على امتداد التاريخ البشري ولا في قيام بريطانيا الاستعمارية بتعويق آصِرةٍ كان ينبغي أن تُعَقد بين مصر والسودان لتشييد صرح دولة عظمى كان من الممكن أن تعيد للأمة مجدها الغابر ذلك أنه بدلاً من السماح بالوحدة بين السودان ومصر عوَّقت بريطانيا ذلك الحلم بمختلف الوسائل ووصلت، بدلاً من ذلك، حبلاً من النار بين الشمال والجنوب كان ينبغي أن يُفصَم لئلا يعوق مسيرتهما التي تحولت إلى مأتم حزين يضج بالدماء والدموع.
دعونا نبدأ مقال اليوم بواقعةٍ هي التي ساقتني لتسطير هذا المقال المكون من جزءين أمس واليوم. فقد تحرك ضمير بعض قدامى المحاربين البريطانيين (veterans) قبل أيام قليلة ليُقيموا مأتماً وعويلاً جماعياً حول مشاركتهم في حروب الشرق الأوسط حين كانوا تحت السلاح تحت إمرة قياداتهم السياسية القاتلة والظالمة.
تجمع أولئك الرجال أمام مقر مجلس الوزراء البريطاني في (10 داوننج استريت) ليقذفوا على الأرض ميدالياتهم العسكرية التي أحالتها ضمائرهم الحية إلى سُبَّة وخزي ظل يلاحقهم في صحوهم ومنامهم بدلاً من أن تكون مصدر فخر يُزيِّن صدورهم ويملؤهم زهوا بما أوهمهم قادتهم به أنه عطاء وبذل في سبيل موطنهم ومبادئهم يستحق أن يخلد في سجل الفخار.
تحدَّث أولئك الرجال والحسرة تملأ قلوبهم عن مشاركتهم في حروب الشرق الأوسط السابقة وما أحدثه القصف الصاروخي من قتل للأطفال والنساء والرجال وعن رفضهم مشاركة بريطانيا في قصف سوريا وقالوا بانفعال وغضب إنهم لا يحتاجون إلى تلك الميداليات بعد أن قذفوا بها على الأرض.
تذكرت وأنا أشاهد الفيديو الصادق لأولئك المعذبين من وخز الضمير، ذلك المستعمر المتغطرس توني بلير رئيس وزراء بريطانيا وهو يحاول تبرير مشاركتهم في حرب العراق بعد أن جرَّمَتْه لجنة قضائية بعد سنوات من المداولات حين أفتت بأنه ما كان يحق له الدخول في تلك الحرب التي قضى فيها مئات البريطانيين أما الملايين الذين قتلوا وشردوا من العراقيين فإنهم في نظر القضاء البريطاني والساسة البريطانيين مجرد بهائم لا بواكي لهم لأنهم ليسوا بشراً من لحم ودم وروح كما هو حال الانجلوساكسون المصنوعين من معدن ملائكي آخر خلق ليسود ويستعبد الشعوب على مدار التاريخ.
وبالرغم من ذلك يتساءل بلير وكاميرون وبوش وأوباما وترامب، لا فرق، في استنكار واندهاش: لماذا تنشأ داعش ولماذا القاعدة ولماذا بوكوحرام فكل هذه في نظرهم الكليل مجرد منظمات إرهابية تفتك بالأبرياء أما هم، قتلة ملايين البشر ومشردوهم وقاهرو الشعوب ومحتلو الأوطان فإنهم مجرد حملان وديعة لا تستحق غير المواساة على ما يُضمِره لهم أولئك الأشرار.
توني بلير، أيها الناس، عبارة عن شيطان مريد تكرر في انجلترا وفي بريطانيا بوجوه كثيرة في شتى حقب التاريخ البشري ليظلم ويدمر ويقتل ويحتل ويستعبد الشعوب.. إنه ليس جزءاً من داعش أو القاعدة اللتين كانتا مجرد طفرات غريبة في مسار التاريخ استفزها ذلك الطغيان وأرادت أن تعبر عن غضب مكتوم لم يُسمَح له بأن يخرج عبر المسارات الطبيعية فاختار ذلك الطريق الانتحاري اليائس. انظروا إلى بوش.. إنه من نفس السلالة.. انظروا إليه وقد أعلنها حرباً صليبية ضد العراق وليس ضد أفغانستان حيث يربض بن لادن مفجر مركز التجارة العالمي بنيويورك.. انظروا إليه وهو يختلق فرية أسلحة الدمار الشامل ليُطيح صدام من حكم العراق ويُحيل بلاد الرافديْن إلى مِزَقٍ من الدويلات الفقيرة والمتنافرة ثم يعترف وزير خارجيته كولن باول بأنهم كذّبوا وخدعوا العالم ليقوموا بغزو العراق.
انظروا إليهم ولما يفعلون في سوريا الآن فالقصة والمخطط لم ينته فمن يتخلون عن الأخلاق تخلوا في الحقيقة عن كل شيء وليستعدوا لغضب الرحمن في أوان يراه هو سبحانه ولا نراه. إنهم ينسون أن هناك ربَّاً يرقب ويشاهد، هو الذي سمح لذي نواس الحميري في اليمن بأن يُصلي بنيرانه أولئك المؤمنين الذين (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). قضى أولئك المؤمنون وهم مطمئنون أن هذه الدنيا ليست خاتمة المطاف.
ولكن لا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون فأين عاد وثمود؟ ربما لا نشاهد عاقبة هؤلاء الظلمة في حياتنا هذه القصيرة ولكننا بالقطع صامدون وموقنون ومطمئنون أن العاقبة ليست لهؤلاء الظلمة إنما للمؤمنين الصابرين على لأواء السجون والموت والخراب والدمار.. ذلك ما يُطمْئِنُ مرسي القابع بصبر جميل في سجنه البائس وذلك ما يؤرق ذلك الصغير السيسي وهو في قصره الكئيب تحت حماية أعداء الأمة أمريكا وبريطانيا وإسرائيل.