منوعات

إنه الذئب.. بلباس الراهب!


تتفاوت درجة تحكم العواطف والمشاعر عند البشر، سواء في تصرفاتهم وأفعالهم وحتى في أحكامهم وتقديرهم لمجريات الأمور والأحداث التي يتعرضون لها، لا يمكن القول إن هذا المكون من الشعوب عاطفي والآخر لا، لأنها خاصية متأصلة لدى الجميع، لكنها تتفاوت في درجة تأثيرها وتحكمها من فئة إلى أخرى. يقال كثيراً إننا كشعوب “شرق أوسطية” نتميز بمعدل التأثير الكبير للعواطف على الأحكام والانفعالات المختلفة التي تصدر منا. والواقع يجزم بحقيقة هذا الأمر وصعوبة إنكاره.

من المؤكد أن لهذه الخاصية إيجابيات وثمار تعود بالنفع عند توجيهها بالشكل الصحيح. لكن بالمقابل فالنتائج أقل ما يمكن وصفها بالـ”كارثية” حال توظيفها بشكل سلبي وخاطئ، سواء تلبست أو أثيرت بشكل ماكر بدافع ديني، أو سياسي، أو قومي.

قبل أشهر أصدرت الحكومة الصينية بياناً شديد اللهجة على لسان متحدثها الرسمي يهاجم الزعيم الروحي للتبت، الدالاي لاما، تحديداً بعد زيارة قام بها الأخير إلى البيت الأبيض. التبت، أقليم يقع تحت سيادة الصين ينادي أهله بالاستقلال والتمتع بالسيادة الكاملة، يدين غالبية هذا الأقليم بالبوذية، وشكلت مجموعة من قياداته حكومة شكلية في الخارج، كنوع من أنواع الضغط على الصين المعروفة بنهجها التعسفي ضد جميع الأقليات التي تعيش ضمن حدودها سواء مسلمين وغيرهم.

“الدالاي لاما” الأب الروحي للبوذيين في تلك المنطقة ناشط ضد الحكومة في الخارج وأبرز القادة التبتيين، بعد لقائه الرئيس الأميركي استشاطت الصين غضباً وأصدرت بياناً تقول فيما ما معناه أن الدالاي لاما يلبس الثوب الديني لاستمالة الشعب التبتي، ويظهر دائماً في ثوب الراهب لنيل الحب والتأييد الشعبي، وأنه ما هو إلا “ذئب.. بلباس راهب”.

من المؤكد أن الصين تبالغ في هذا الوصف، وأنه يحمل دوافع سياسية، لكن لربما لبعض التساؤلات أن تتسلل إلى الذهن من غير استئذان عند الاطلاع على المقابلة الصحفية التي أجرتها صحيفة ألمانية مع الدالاي لاما، وفي سؤالها عن رأيه فيما يتعرض له السكان المسلمون في بورما على يد الرهبان البوذيين وأتباعهم قال: إنه شيء محزن.. وأناشد الرهبان أن يتذكروا وجه بوذا!”.

شخصية لها ثقلها مثل الدالاي لاما بين البوذيين كان يمكن أن يكون لها دور فعال أكبر لوقف عميات القتل والتطهير العرقي هناك، ويبدو أن وجه بوذا قد غاب عن مخيلة الدالاي لاما بعض الشيء عند دعوته للحكومة الألمانية عدم استقبال اللاجئين إلا لفترة مؤقتة، دحراً لمخاوف تحول ألمانيا لدولة عربية! وذلك في مقابلة أجراها قبل أشهر مع صحيفة ألمانية.

لا قضية التبت ولا حتى شخص الدالاي لاما هي محور موضوع هذا المقال، إنما وتحديداً مدى تطابق وواقعية مقالة: “الذئب.. بلباس الراهب” على واقعنا وعالمنا العربي والإسلامي، التلبس بثياب الدين أو القومية أو تحت أي رداء وقابليته للتأثير على شعوب المنطقة أمر قديم متجدد، لم نُجنِ من خلاله إلا الدمار والويلات و الدماء، من السهل جداً أن تظهر علينا شخصية متلبسة بثوب “العلم الديني” أو شعار “الممانعة” تبدأ بتوجيه الناس في الإفتاء بالحلال والحرام وشعارات المقاومة والكفاح، أو توجيه الناس بالوعظ والإرشاد، وما إن يُكتب لها الشهرة والقبول، حتى تبدأ بالخوض في مجالات الحياة الخارجة تماماً عن اختصاصها الذي عرفت به، تبدأ في التنظير في كل شيء بدءاً من السياسة وانتهاء بعلم الفضاء ودوران الأرض..

صحيح أن الإسلام “يدعو” في منهجه إلى التبحر في كل العلوم، لكنه في المقابل “يأمر” بعدم الخوض في أي أمر دون دراية أو علم أو معرفة. ما يميز واقعنا أننا نحن من نسمن ونغذي ذئابنا، نضفي عليهم التقديس، نبرر لهم أي زلة و خطيئة، نملكهم العصمة التي لا يستحقونها.

من منا لم يقع في فخ ذاك الشيطان الذي حرك الأمة بخطاباته التي وعد فيها أن طريقه الذي يسير عليه هو ومن معه لا يؤدي إلا لفتح القدس.. انتظرنا كثيراً على جنبات الطريق ونحن نهتف ونصفق ونزمر له ولأمجاده المزيفة، فسقطت بيده بغداد ثم أختها دمشق وأتبعتهما صنعاء وما زال يعد ويؤكد أن هذا ضمن خارطة طريقه للقدس! وما زال البعض يصدق.

في إحدى الدول العربية كانت شخصية دينية في الإعلام تدعو الناس إلى الخروج على الشرفات والتكبير والضرب على “الطناجر” تنديداً وتعبيراً عن ثورتهم ضد الظلم. بدل أن يكون لهم دور إيجابي فعال كل في مجاله لنصرة قضيتهم، وبكل برود وسعادة كانت تأتي دوريات الأمن في الصباح لتأخذ هؤلاء المساكين إلى أقبية الضرب على الجماجم بدل “الطناجر”..

ليس فيما كتب شيء من الدعوة إلى إسقاط الرموز الدينية أو السياسية وغيرها، إنما هي دعوة للتبصر والتعقل في الحكم على كل ما نرى ونسمع ونشاهد. عند البعض لا يمكن أبداً أن نستبعد أو ننفي النية الطيبة والصالحة والقصد السليم، ولكن النية الصحيحة ليست كل شيء، بل لا بد أن يعقبها العمل الصحيح القويم، وقديماً قال الفلاسفة: إن الطريق إلى جهنم مفروش بحسن النوايا!

د. أيهم زيباري
هافغنتون بوست