منى ابوزيد

لعلكم تتقون ..!


“من أشرقت بدايته أشرقت نهايته” .. ابن عطاء الله السكندري ..!
(1)
بات جلياً أن تردي واقعنا الاقتصادي قد أعاد صياغة مفهوم الانتماء إلى الطبقة المتوسطة في السودان، ليس ذلك فحسب، بل تمزق ذلك الدرع القماشي الرقيق، الذي كان يحمي أصحاب الدخل المتوسط من مآسي وكوارث أصحاب الدخل البسيط.. أهم أسباب حالة البرزخية الطبقية تلك – في تقديري – هو ازدياد حجم طلب الطبقة المتوسطة على السلع الاستهلاكية ليس كنتيجة مباشرة لارتفاع الدخول وبالتالي زيادة المقدرة الشرائية، بل لشيوع ثقافة الاستسلام الكامل لجموح الرغبة في التميز والظهور، فالناس على دين ملوكهم، والمباهاة بالقوة المادية والبوبار بالنفوذ السياسي قناعة راسخة في أدبيات واقعنا السياسي والاقتصادي المعاصر ..!
(2)
(رأيت وأنا أسير في المقابر ضريحاً كتب على رخامه “هنا يرقد زعيم سياسي ورجل صادق” فعجبت كيف دفن الاثنان معاً!) هكذا تكلم تشرشل يوماً عن اقتراف أفعال الإجراءات التي تؤدي لاتخاذ قرارات لصالح المجتمعات البشرية، بصرف النظر عن الطرق المؤدية لتلك المصالح! .. صحيح أن آخر ما تنتهجه السياسة هو الصدق، ولكن أول ما تتطلبه هو ضبط النفس والتفكير الهادئ .. ربما لذلك لم نسمع يوماً بسياسي فقد منصبه لأنه كاذب، ولكن كلنا سمعنا عن مصائر الساسة الثرثارين ..!
(3)
في هذا البلد وباء مؤسساتي اسمه التركيز على قضية واحدة، لابد أن نعترف بقصور مقدرات الشخصية السودانية – بحالها الراهن – عن تحقيق حزمة أهداف في وقت واحد .. حتى إعلامنا مصاب بلعنة النظرة أحادية الجانب في تناول الشأن الاجتماعي والفكري والإنساني لكل أزمة سياسية .. نحن نواجه اليوم مغبة استشراء الفقر واستتباب الغلاء وتفشي البطالة .. التحولات الاقتصادية المفاجئة أقلقت منام القيم الاجتماعية وهجعة الأخلاق الأسرية، وأضعفت الصلات العائلية فشاعت فينا ثقافة الاستهلاكية المادية القاسية .. فكثر الصدام وتفاقمت الخلافات وشاعت السلبية بين الآباء والأمهات فخرجت أجيال بأكملها عن السيطرة .. حتى كادت صورة المجتمع النمطي المتسامح المترابط أن تغيب .. والإعلام مشغول بنزاعات الحكم ومكايدات السياسة، أما الفاعل فضمير مستتر تقديره حكومة أحادية الجانب ..!
(4)
أي حكومة تحترم نفسها – قبل شعبها – ترصد لائحة بأزماتها المحتملة، قبل حين من الدهر، ثم تشرع في إجهاض تلك الأزمات (القضاء عليها قبل أن تولد بإزالة أسبابها المحتملة)، فينبري المحللون لتحديد حجم الأزمة وتقييم مقدرات الدولة حكومة وشعباً على احتمالها، ويجتهد الخبراء في قياس قطر الفجوة بين مقتضيات الأزمة والمهارات المتوافرة لإدارتها ومن ثم قياس حجم النجاح المتوقع .. والآن صحح لي إذا أخطأت .. ماذا يفعل المسئولون في بلادك طيلة أوقاتهم – بخلاف تصنيع التوتر وتصدير الأزمات؟! – أين تقبع آذانهم من أبواق المحذرين عشية كل كارثة اقتصادية جديدة؟! .. هم قابعون كعادتهم بانتظار (جودو) ما .. فالتغيير في السياسة السودانية ليس فعلاً يؤتى بل حدثاً يتم انتظار ذهابة وإيابه، كعادة الحكومة مع كوارث فصل الخريف ..!