مقالات متنوعة

حماد صالح : فهم القرآن عند العارفين ( 1- * )


كلمة العارف تطلق على من يعتقد فيهم الصلاح والظن أنهم من المقربين وفى بلدان تطلق كلمة عرفاء بدل عارفين فمهما كانت التسمية فقد كانوا قرآناً يمشي على رجلين فمنهم من كانت له ِإشارات فى إستنباط معانى القرآن ومنهم من فسره تفسيراً مباشراً وهذه الإشارات والتفسير المباشر ليس هو التفسير المعهود عند علماء التفسير إنما معانى خصهم الله بها فى فهم القرآن وسنحاول فى هذه المساحة التركيز على الإشارات أكثر ومحاولة فك طلاسمها فى سلسلة مقالات غير محددة سائلاً الله التوفيق .
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبن عباس فقال ( اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل ) .
وقال الإمام على رضى الله عنه : ( لو أردت لبقرت سبعين بعيراً من تفسير سورة الفاتحة ) وهذا هو معنى التأويل لأن سورة الفاتحة تفسيرها لا يأخذ كل هذا الحيز كما ذكر الإمام الغزالى ولكن من أتاه الله فهماً فى القرآن يستطيع أن يكشف أسرار القرآن فقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال (… إلا رجل أتاه الله فهماً فى القرآن) .
ولندلف إلى أول إشارة حيث ورد عن أبا يزيد البسطامى قصة مشهورة فقد مر رضى الله عنه بمقابر يهود فقال ( يا رب اليهود ما هم حتى تعذبهم كف عنهم عظام نخرت عليها المقادير. ومر بمقابر مسلمين فقال : مغرورون ).
يتبادر إلى الذهن أنه يقف الى جانب اليهود ويدافع عنهم ولكنه يوضح لنا تفسيراً مهماً فى سورة النازعات حيث قال تعالى (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11)
أغلب التفاسير للآية 11 فى سورة النازعات وردت عظاماً بالية وعظاماً مرفوتة أى رفاتاً ولكن نجد أن أبا يزيد أعطى التفسير بعداً آخر وجعله أقرب للمنطق فما معنى أن يقولوا يوم القيامة أإنا لمردودون فى الحافرة والحافرة النار كما ورد فى بعض التفاسير ثم يقولون أإذا كنا عظاماً بالية أو رفاتاً وهذا الكلام فى اليوم الآخر حسب الآيات التى سبقتها فما معنى أن يتحدثوا عن الحياة البرزخية التى كانو فيها عظاماً بالية ورفاتاً وهم قد بعثوا بالفعل ؟! ولكن إذا أمطنا اللثام عن كلام البسطامى سيتضح المعنى كما الشمس فى وضح النهار ’ لقد أعطى أبا يزيد تفسيراً لهذه الآية وهو أن الكفار سيقولون لقد سبق علينا الكتاب حيث كُتبنا أشقياء ووردت لفظة عظام بالذات لأن هناك حديث يقول (حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا شعبة أنبأني سليمان الأعمش قال سمعت زيد بن وهب عن عبد الله قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )
وكذلك قال تعالى فى سورة المؤمنون ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14 )
فهذا معناه أن خلق الإنسان بعد المضغة تُخلق العظام وعندها يكتب أجله ورزقه وشقى أو سعيد كما ورد فى الحديث أعلاه وهذا المعنى الذى قصده البسطامى وهو المعنى المقصود لتفسير (أإذا كنا عظاماً نخرة ) أى حجتهم هى أنهم مكتوبون أشقياء منذ أن كانو عظاماً تتخلق فى بطون اُمهاتهم . وهذا يقودنا إلى قصة موسي والخضر حيث قال تعالى (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) وقد ذكر بعض المفسرين أن الغلام كان مكتوباً فى عظمه كافراً فقتله الخضر وهذا معنى مجازى وليس المقصود مكتوبة حروفاً فى عظمه إنما كُتب شقياً عندما تخلق عظاماً فى بطن اُمه وقد قال صلى الله عليه وسلم :
(الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً).

وأما الاشارة الثانية فى قول أبا يزيد عندما مر بمقابر مسلمين فقال : (مغرورون ). وهنا اشارة لقوله تعالى ( يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم ) حيث أن الله تعالى أراد أن يلقن المسلم اجابة تنجيه من عذابه فذكر إسم الكريم ليقول غرنى يا رب كرمك وقد قال أبوبكر الوراق لو قال لى ما غرك بربك الكريم لقلت غرنى كريم كرمك وذكر إبن عربى أن الله اختار إسم الكريم من سائر أسمائه وصفاته ليلقننا الإجابة على السؤال حتى نقول غرنا كرمك يا رب .
فأبا يزيد يريد أن يقول أن هذه الاُمة مرحومة رغم تقصيرها ولكن قليل من يفهم ذلك واُولو الألباب تكفيهم الإشارة .

والله أعلم