جعفر عباس

أغبط أصحاب المهارات اليدوية


شكوت مرارا من أن أكثر ما يحز في نفسي هو أنني لا أحسن استخدام يدي إلا في الأكل؛ بمعنى أنني لا أتمتع بأي مهارات يدوية، ويعجبني في بعض الناس أنهم يستطيعون تبديل أقفال الأبواب من دون الاستعانة بنجار، وفك أحواض الغسيل لإزالة ما يسدها، ومعالجة الأعطال الكهربائية. ومع هذا فلَديَّ ولع عجيب بمفاتيح الحل والربط والمفكات التي يسميها أهل الخليج (سكروب)، وهي تحريف لمسماها الإنجليزي (سكرو درايفر)، ولديَّ تشكيلة من المطارق الحديدية وزرديات وكماشات، احتفظ بها في صندوق أنيق، وأستخدمها أحيانًا، ولكن في أغلب الأحيان بطريقة (جاء يكحلها عماها)، ويعلوها الصدأ كل بضع سنوات فأشتري بدائل لها. والأمر الآخر هو أنه ليست لي هواية معينة، كان والد زوجتي مولعا بصيد السمك، وذات مرة رافقته إلى موقع خارج مدينة الخرطوم، وجلسنا نحو ساعتين نحدق في النيل وأيدينا ممسكة بأعواد خيوط السنارات، ومن فرط الضيق بتلك الجلسة المملة ربطت العود الذي يخصني إلى شجرة واستأذنت منه بزعم العودة بعد قليل، وهربت بجلدي! والغريب في أمر والد المدام أنه كان يجلس يصطاد السمك ساعات ثم يحمل حصيلة الصيد ويطوف بها على بيوت الأقارب موزعا الأسماك، وقد يعود إلى بيته صفر اليدين، فقلت له معقبا على ذلك: يعني أنت فقط عدو للبيئة وتريد تقليص ثروة البلاد السمكية، بدليل أنك غير معني بأكل السمك الذي تصطاده.
لا أعرف طريقة لتزجية وتمضية الوقت سوى القراءة، أو مشاهدة قنوات تلفزيونية بعينها (ليس من بينها قنوات عربية رسمية أو تجارية لأنني أعاني سلفًا ارتفاع ضغط الدم!)، وكلما شكوت أمام أصدقائي من أنني أحس بالقصور أو التقصير لعدم إجادتي حرفة يدوية قالوا لي: «أنت كاتب وتلك مهارة يدوية»، وهذا كلام من باب «التعزية والمواساة»، حتى خطّي ليس جميلا، كي يقال إن ممارستي الكتابة تأكيد لأنني أتمتع بمهارات يدوية.. ربما يقصدون أنني كاتب له مواد منشورة، ومن ثم فإنهم يعتبرون ذلك دليل مهارة يدوية! هذا ليس صحيحًا، فكون أن لك مقالات منشورة قد يعني أنك صاحب مهارات ذهنية، وليس في هذا ما يميزك عن الآخرين؛ فغالبية الناس يتمتعون بمهارات ذهنية. أعرف شابًا كان يعمل في استعلامات الهاتف في دولة قطر، في عصر ما قبل الهاتف الجوال والإنترنت، وكان يحفظ عن ظهر قلب أرقام هواتف جميع الشركات والمؤسسات التجارية والفنادق ومكاتب الطيران وكبار الشخصيات. هذا الشاب يملك مهارات ذهنية متميزة للغاية، وملايين الناس يتمتعون بقدرات ذهنية عالية من دون أن يكونوا من حملة الشهادات العلمية أو الألقاب الوظيفية الكبيرة، ثم إن هناك أناسًا كثيرين يملكون قدرات على الكتابة جديرة بالإعجاب ولكنهم لا يكتبون، أو يكتبون ولا ينشرون.
وكثيرون يسألوني بين الحين والآخر: كيف يتسنى لك كتابة مقال يوميًّا على مدى عدة سنوات، وقد يضيف بعضهم: أنت عبقري.. يا ريت يا خويا.. لو كانت كتابة مقال يومي دليل عبقرية لصار في كل بلد عربي عدة عباقرة يشار إليهم بالبنان، ولكان حظهم في الحياة أفضل من حظوظ كل المهنيين ورجال الأعمال. وأحسب أنني على حق في اعتقاد أن المهارات اليدوية أهم من المهارات الذهنية أو مكملة لها، وفي الإحساس بأن النظام التعليمي في بلداننا ظلمنا كثيرًا عندما شحن رؤوسنا بمحفوظات، بل وزرع فينا احتقار العمل اليدوي.
في بيتنا نعتمد كليًّا على مهارات أصغر عيالي لفك وتركيب الأجهزة الكهربائية والإلكترونية ومعالجة ما بها من خلل.. ذلك أنه نتاج نظام تعليمي يعطي العمل اليدوي مساحة كبيرة في مناهجه.