تحقيقات وتقارير

أبناء مُنحرفون.. مَن المسؤول؟!


لم تَعد السّيطرة على سلوك الأبناء بالأمر الهَيِّن في ظل العولمة التي اجتاحت العالم وساهمت بشكل أساسي في نشر مفاهيم وأفكار غريبة على المجتمع وجدت ضالتها لدى الشباب، فازدهرت ونمت في أوساطهم فأدّت للانحراف الفكري والسلوكي لديهم بفضل انشغال الأسرة عن أبنائها بحثاً عن لقمة العيش والحياة المثلى.
وحتى الأمس القريب كان من المُمكن وبقليل من الجُهد، السيطرة على الانحراف السلوكي والفكري لدى الشباب مُقارنةً بالوقت الحالي الذي استعصى فيه مراقبة الشباب.. نحاول من خلال التحقيق تلمس أسباب المشكلة وسبيل علاجها.

حسن صبي في حوالي السادسة عشر من عمره، وحيد بين ثلاث بنات، كان مولده بمثابة الفرح لدى أسرته، رسم والده عليه آمالاً وأحلاماً عراض ليتحمل معه جزءاً من مسؤولية أثقلت كاهله، فوالده الذي جاب الأرض بحثاً عن مصدر رزق له وأخواته بعد أن استقر به المقام بعد سنوات من الهجرة لم يجن منها سوى القليل الذي أنفقه بعد أن ضاقت به سُبُل الرزق.
ظَلّ حسن وطوال دراسته في مرحلة الأساس من النوابغ الذين يُشار إليهم ببنان الإعجاب، تحصل على درجة تُؤهِّله لدخول مدرسة نموذجية بعد نجاحه في شهادة مرحلة الأساس، إلاّ أنّ ميوله نحو اكتشاف عوالم الأشياء جعلته يُفضِّل الالتحاق بمدرسة صناعية، فاختار لنفسه المَساق الحرفي، حيث انتظم في دراسة الكهرباء العامة من هنا بدأت نقطة جديدة في حياة حسن وأسرته، فتدهور مُستواه الأكاديمي رغم حُبِّه للاتجاه الذي اختاره وبنهاية سَنوات الدراسة تحصّل على نسبة بالكاد تكاد تضعه في صُفوف النّاجحين بعد أن أصبح مُدمناً للسجائر و(الصعوط)، مُتقمِّصاً دور رجل البيت الذي يفرض رؤاه وأفكاره غير المرغوبة لأسرته التي رَسمت لمُستقبله صورة زاهية بدأت تنهار أمام نظرها.

مسؤولية
أم أحمد ترى أنّ تربية الأبناء أصبحت واحدة من أهم الإشكاليات التي تُواجه الأُسر في الوقت الراهن، بقولها: لم يعد الزمن هو ذاته الزمن الذي تربّينا فيه حتى يتربى الأبناء بنفس الطريقة التي تربينا بها، فأطفال الجيل الحالي وبفضل التطور الذي صاحب وسائل الاتصال والتغيير الاجتماعي لدى أفراد المُجتمع الذين كانوا في سَابق عهدهم يتحمّلون جُزءاً من مسؤولية التنشئة الاجتماعية مع الأبويْن خُصُوصاً الأسرة المُمتدة، جعل من أمر مُراقبة الأبناء وتوجيههم أمرا في غاية الصعوبة ساهم في ذلك التعليم الذي أتاح للمرأة الخروج للعمل أُسوةً بالرجل ممّا أدّى لاتساع الهوة بين الأسرة والطفل لانشغال الأبويْن بتدبر سُبُل العيش ولقلة السّاعات التي يلتقي فيها الأب والأم بأبنائهما.

وأضافت أم أحمد: لا أستغرب أن ينقاد الأبناء نحو بعض السلوك غير المرغوب فيه، أو أن يلتحقوا بداعش وغيره، والأسرة غاية همها أن توفر للأطفال كل مَا يَرغبون فيه دون الالتفات لخُطورته، فماذا تتوقّع أسرة من طفل استجلبت له جهاز لابتوب قبل أن يكمل مرحلة الأساس؟ أو منحته جهاز تلفون ذكي وهو مازال في طور المُراهقة؟ هل الطفل في الأساس بحاجة لمثل هذه الأشياء؟ لماذا لا تسأل الأم نفسها؟ ماذا تَضيف هذه الأجهزة لطفلها؟ وماذا تَخصم منه؟ أعتقد أنّ الأسرة هي من تدفع وبيدها ودون مُساعدة أحد بأطفالها نحو الهواية فقط من أجل التباهي أمام الآخرين بقُدرتها على توفير كل شيء للأبناء.
وخَتمت أم أحمد حديثها بالإشارة لجهل العديد من أولياء الأمور للتقنية التي تَعمل بها أجهزة التلفون بقولها: للأسف رغم تَعليمنا الجامعي فأنا عن نفسي اعترف بجهلي الشديد للتقنية التي يعمل بها جهاز التلفون الذي أحمله لاحتوائه على برامج وتقنيات حَديثة، بَل في كَثير من الأحيان أستعين بالصغار من أجل الحُصُول على معلومة أو إعادة ملف بالإضافة للجوء لهم كلما صعب عليَّ أمر ما.

في اعتقادي أنّ مُراقبة الأطفال وتوجيههم وإرجاعهم للطريق القويم هي مسؤولية الأسرة في المَقام الأول، ومن ثَمّ يأتي دور بعض الجهات المُكملة لدور الأسرة كالمدرسة والجيران والأقارب.

رفضٌ وتنمرٌ
رفضت الدكتورة إخلاص عباس مدير إدارة الإرشاد النفسي بوزارة التربية ولاية الخرطوم، إطلاق مُسمى الانحراف الفكري والسلوكي للتغييرات الفكرية والسلوكية لأطفال المدارس بقولها: طلبة المدارس وحتى سن الثامنة عشر نعتبرهم أطفالاً، لذلك لا نحبذ كلمة الانحراف ونُسمِّي ذلك التغيير في السلوك مَظاهر سُلوكية سَالبة، بينما نطلق كلمة أفكار خاطئة للانحراف الفكري، ونتحدّث من خلال ذلك عن مظاهر العُدوانية والتخريب وإشعال النيران والسرقة والكذب، بالإضافة لظاهرة التنمر ويُعرف التنمر بأنه استقواء طفل أو مجموعة من الأطفال على زميل لهم في الحي، الحارة، الصف أو المدرسة، ومضايقته جسدياً أو معنوياً ويكثر انتشاره ضمن المدارس. ومن أبرز أسبابه خلل في أساليب التنشئة الوالدية المبكرة للأبناء منذ الطفولة واستخدام هذا السلوك للتعامل مع المواقف الصعبة في البيت كالطلاق، التهميش، الغضب، وبعض الأطفال يعتقدون بأنّ سلوكهم هذا عادي لأنّهم قادمون من عائلات عنيفة تستخدم أسلوب الصراخ أو إطلاق الألقاب.. والتقدير المُتدني للذات، لذلك يبحثون عن الأطفال الضعفاء جسدياً، عاطفياً وغيرها لكي يشعروا بأنّهم أكثر أهميةً وشُهرةً، وذلك يعطيهم تقديراً لذواتهم.. وضغط جماعات الرفاق، والتأثيرات السلبية لوسائل الإعلام ومَشَاهد العُنف وضعف دُور المُؤسّسات التعليمية في التربية النفسية للطلاب، وتنمية مَهَارَات الكفاءة الاجتماعية والأخلاقية لديهم والبيئة المدرسية العنيفة.

ويرجع علماء النفس التربوي سُلوك التنمر عند الطفل لعدد من الأسباب منها: رغبة الطفل في لفت الانتباه إليه أو عدم شُعوره بالأمان. وأضافت إخلاص عباس: الأفكار الخاطئة قد تكون اتجاها سالبا حول نفسه كالإحساس بالفشل والكراهية، مما ينعكس سلباً بعلاقته بالآخرين، وفي نهاية الأمر يعود كل ذلك للتنشئة الاجتماعية للطفل والبُعد عن القيم الدينية.

وأردفت بقولها: للأسف، فإن الأُسر وبسبب الانشغال بمشاكل الحياة انصرفت عن أبنائها, فيما يلي الوزارة فإنّها قامت بإنشاء وُحدة للإرشاد النفسي في كل محلية لمرحلتي الأساس والثانوي لتفادي مثل هذه الإشكاليات على أن يُتابع الاختصاصي النفسي الموجود بالمدرسة سُلوك الطلاب من خلال مُلاحظة حركة الأطفال، على سَبيل المثال ظاهرة السرقة بالمُلاحظة أو التنبيه والشَّكوى حتى يتسنى للمدرسة تفادي ذلك من برامج وقائية للسلوك غير المَرغوب فيه بطريقة غير مُباشرة من خلال تنبيه السُّلوك لبعض المظاهر السُّلوكية الخاطئة وبطريقة مُباشرة إذا دَعَت الضرورة ذلك، مُشيرةً إلى أنّ كل الطلاب في سن المدارس في المركز والمعاهد هُم بالضرورة تابعون لإدارة الإرشاد النفسي بالوزارة، إلى جانب كل المُحيطين بالمُؤسّسة التعليمية بدءاً بأصغر عامل نظافة في المُؤسّسة انتهاءً بقيادة المُؤسّسة على أساس أنّ السلوك الصادر من أيٍّ من أفراد المُؤسّسة هو في نهاية سُلوك يَمس الطالب بصورة مُباشرة على أن يتعامل الاختصاصي النفسي مع المُعلم مثلاً حال أن تطلَّب الأمر تنبيه للسلوك الحاد، مثلاً مع الطلاب نتيجةً لظروف يمر بها المعلم على سبيل المثال على أنّه زميلٌ يقوم الاختصاصي النفسي بتعريفه على خُطورة سُلوكه على طُلابه بصورة ودية.
وختمت إخلاص حديثها بقولها: نتطلّع مُستقبلاً لإحاطة البيئة المُحيطة بالمدرسة بتوعية المظاهر السلوكية والأخطاء الفكرية لدى الطلاب والطَالبات من خلال الورش والسمنارات، وفي اعتقادي ما لم تُكثّف الجُهُود في هذا الشأن فمن الصّعب جداً أن تختفي مثل هذه الظواهر.

مَسؤولية الأسرة
ألقى الأستاذ مُنير محمّد عثمان مُوجِّه تربوي الكرة في ملعب الأسرة وحمَّلها مسؤولية الانحراف السلوكي والفكري لدى أبنائها، وقال إنّ دور المُعلِّم ينحصر فقط في التوجيه والإرشاد بخُطُورة الأفكار والسلوك الخاطيء، بينما تقوم الأسرة بالتوجيه والمُتابعة اللصيقة بالطالب، نقوم في بعض الأحيان بعقد مُحاضرات تثقيفيّة بالتعاون مع الجهات المسؤولة في الشرطة للتنبيه بخُطُورة المُخدّرات، لكن في اعتقادي ما لم تتضافر الجُهُود الرسمية والشعبية فمن الصعوبة بمكان مُحاربة ذلك، وأضاف منير محمد عثمان للأسف الشديد، فإنّ المناهج تفتقد لجوانب الإرشاد رغم أهميته، فالمنهج مُمتليء بالجوانب الأكاديمية البحتة، نُحاول كمعلمين تَعديل سُلوك الطلاب من خلال الطابور الصباحي بإعطاء الطّالب جُرعات صَغيرة عن الانحراف الفكري والسلوكي إن دعت الضرورة.. أحسب أنّ دور الأسرة هو الدور الأساسي الذي يُشكِّل حجر الزاوية في مُحاربة الانحراف لدى الطالب، وإن كانت الظروف الاقتصادية التي دفعت برب الأسرة للتغيُّب ولساعات طويلة خارج المنزل لتكبُّد مُطالبات الحياة ممّا جعله بعيداً عن مُراقبة سلوك الأبناء.

في الجانب الآخر، فإنّ تطور وسائل الاتصال الحديثة (النت, فيسبوك, وتساب) بالإضافة للقنوات الفضائية جَعلت من أمر السيطرة على الطالب وسلوكه أمراً غاية الصعوبة زاده من الأعباء المُلقاة على كاهل الأسرة في المُراقبة والمُتابعة والتوعية.

إذا أخذنا من ناحية الانحراف الفكري ظاهرة داعش مثلاً نجد أنّه من الصعب على العقل تقبل مثل تلك الأفكار التي يعملها تنظيم داعش، وبالرغم من ذلك فإنّ بعض الطلاب يسعون للانضمام تحت لوائها رغم مُخالفة سُلوهم الفكري الإسلامى القويم، لذا لابد من تَغذية الجانب الديني للطلاب بالطريقة الصحيحة.
حسن طه رئيس اتحاد المدارس الخاصة بولاية الخرطوم، قال إنّ التنشئة لم تَعد مَقصورة على المدرسة لوحدها، بل لابد من تَضَافُر الجُهُود ما بين أجهزة الدولة والمُجتمع والأسرة التي تُعد الشريك الأساسي.. فمن المُلاحظ غياب دور الإعلام مُقارنةً بالتطور الذي استصحب وسائل الاتصال والنت، لذا في اعتقادي أنّ محاربة الأمر في حاجة مَاسّة لمجهود كبير من خلال عقد الورش والسمنارات.. نحن في المدارس الخاصة على صلة لصيقة بأولياء الأمور حَال تغيُّب الطلاب عن المُداومة المدرسية دون إبداء أسباب منطقية، وفي الحال تتصل إدارة المدرسة بالبيت لمعرفة أسباب التغيُّب، لجهة أنّ الاهتمام بالطالب يُعد جزءاً من سُمعة المدرسة، وأضاف رئيس اتحاد المدارس الخاصة: قبل ثلاث سنوات من الآن صَدَرَ قرارٌ من وزارة التربية والتعليم يقضي بمنع طلاب المدارس من حَمل أجهزة التلفون المَحمول لما له من آثار سالبة على سُلوكيات الطالب حال أن ضبطت إدارة المدرسة جهاز تلفون مع أحد طلابها، فمن حقها مُصادرة الجهاز على أن يُعاد للطالب بعد نهاية العام الدراسي أو بعد حُضُور ولي الأمر وتعهّد بعدم السماح لابنه بحمل التلفون مَرّةً أخرى.
يبذل المُعلِّمُون في المدارس جُهداً مُقدّراً في سبيل صدّ الانحراف السلوكي والفكري لدى الطلاب قدر استطاعتهم، وتُعقد دورات نُسمِّيها بدورات التوجيه المعنوي من وقتٍ لآخر، لكن للأسف فإنّ القضية أكبر من أن تَستطيع المدرسة مُجابهة الأمر لوحدها دون مَعونة الأسرة، فما تزرعه المَدرسة ينتزع بسُهُولة من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي من خلالها يتلقى الطفل تفاصيل صَادمة لطُفولته ووعيه وسِنِه، فلابد أن يكون لوزارة الاتصالات كذلك دورٌ في هذا الشأن أُسوةً بغيرها من الجهات ذات الصلة.

حُب المُغامرة
الدكتور أنس أبوعوف الاختصاصي النفسي أرجع سرعة انقياد طلاب المدارس في مرحلتي الأساس والثانوي للسلوكيات المنحرفة لحب التقليد من خلال تقليد من هم أكبر سناً منه لإظهار قدر من الرجولة كالشفتنة مثلاً تناول الشيشة، السجائر والصعوط وغيره.. وقد تكون أسباباً نفسية كحب المُغامرة مثلاً باكتشاف عوالم جديدة كالمخدرات التي يُروَّج لها المُجتمع بغير وعي منه بإظهار المسطول على أساس أنّه شخص ظريف أو ذكي من خلال النكات التي يُروَّج لها برغم ما لها من آثار سالبة ومدمرة، إلى جانب بعض السُّلوكيات الجاذبة التي تجد جَاذبيةً لدى الشباب مثل أفلام الآكشن أو تلك التي يجد فيها نوعاً من التنفيس، وقد تكون أفلاماً إباحية يسعى من خلال لاكتشاف بعض الغموض بالنسبة للأطفال في أعمار صغيرة، خُصُوصاً وأنّها أصبحت مُتاحة لسهولة الوصول اليها لقلة التوعية من قبل الآباء والأمهات، وأضاف د. أنس أبو عوف: لابد من مُصادقة الأبناء حتى يتسنى للأسرة توعيتهم وإرشادهم في المسائل المسكوت عنها وفتح قناة للتفاهم بدلاً عن اللجوء الصادم الذي يسلكه بعض الآباء والأمهات، ولابد من بذل البدائل والقيم لشغل الفراغ لدى الشباب من الجنسيْن.

تحقيق: زينب أحمد
صحيفة التيار