تحقيقات وتقارير

تظاهرات دنقلا تعيدها إلى الواجهة اللجان الشعبية .. من ينفض عنها غبار السنين ؟


الناظر إلى تبدلات المؤتمر الوطني الحاكم وهو على مقربة من العشرية الثالثة، يلحظ مع ثبات الحزب الأيدولوجي، مراجعات كبيرة للمواقف، وتغييرات واسعة في الهياكل، وتحولات مهمة في السياسات الخارجية، فضلاً عن تنازلات داخلية ضخمة تراجعت بموجبها أدبيات وشعارات التسعينيات الحربية من شاكلة (فلترق كل الدماء)، وكذلك مؤسسات تلك الفترة على نحو ما جرى للجان الشعبية.
وبعد فترة من الموت السريري وتحديداً منذ العام 2012م، أعاد 600 متظاهر من محلية دنقلا، اللجان الشعبية إلى الحياة وواجهة الأحداث، حين تظاهروا ضد قرار المعتمد بتعيين ممثليهم الشعبيين في هذه اللجان. وتعتبر اللجان الشعبية أحد ابتداعات نظام الإنقاذ في بواكير عهدها لأجل تنزيل السلطات وتفويضها للأهالي ليقولوا قولتهم في كل الشؤون تقصيراً للظل الإداري، هكذا كان الإعلان.
بين مرحلتين
شهدت حقب ما قبل اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) نشاطاً محموماً بين قيادات حزب المؤتمر الوطني في الأحياء السكنية، فهناك القواعد الانتخابية المرتجاة، وفرصة تعظيم عدد المنتمين للحركة الإسلامية، وتحميس الرجال لينفروا إلى سوح المعركة وقبر المتوفين بصورة احتفائية، إلى جانب تنامي سانحة التصعيد إلى مراقٍ أعلى لمن يريد الصعود على أكتاف تقديم الخدمة للجمهور.
بموجب كل تلك الأحاويل والمصالح المتعدية من الناس إلى قادة اللجان أنفسهم، تعودنا في تلك الفترة على الاجتماعات الكبيرة التي ما أن ينفض سامرها حتى تلتئم ثانية، والمخاطبات الجماهيرية المنمقة، وبعض تنافس على تقديم الخدمة للأهالي، قد يكون ذلك هجرة إلى الله أو لإصابة دنيا، وكل إلى ما هاجر إليه.
ومن مناظر بواكير التسعينات، هو إمساك قادة اللجان برسن التموين الحكومي فهم من يقررون الحصص الموزعة. وإقبالهم على التدريبات العسكرية في ميادين الأحياء فهم من يقررون مع الجنود النظاميين حسم التمرد حسب الشعارات المتبناة يومذاك.
اعتراضات
في المقابل فإن المعارضة -التي خلقها الساسة لتعترض- تقدم جملة من الملاحظات المرعية وتلك التي لا تراعي الإل والذمة بحق اللجان الشعبية.
ويقول معارضون إنه بعد حل الأحزاب السياسية عقب تسلم الجبهة الإسلامية مقاليد الحكم في البلاد بواسطة الانقلاب في يونيو 1989م، عمدت الإنقاذ إلى تمكين سلطاتها في الأحياء بواسطة منسوبيها والمنتسبين إليها في سلك اللجان الشعبية.
ويقسم قادة في المعارضة بأن رجال اللجان ما كانوا سوى بصاصين للحكومة، ينقلون تحركات المناوئين، وتململات الناس، ويحسمون أمر المنضمين إلى المسيرة من عدمه.
ولا غرو بعد ذلك كله أن تدفع المعارضة بحجتها التي يختلف في حجيتها طبقاً للموقف من الحكومة نفسها، والقول إن اللجان -على الأقل في الحقبة الأولى- قد مارست تمييزاً سلبياً ضد من تأنس فيه المعارضة، وذلك بالطبع ممكن إلى حد كبير، بحسبان أن عهد التمكين يومها طال حتى الخدمة المدنية.
مهام آنية
اليوم، فإن غالبية رجالات اللجان الشعبية ينتمون لحزب المؤتمر الوطني المالك لأغلبية ميكانيكية من لدن البرلمان وحتى أصغر تمظهرات الحكم، وعليه فمن البديهي أن تنشط اللجان الشعبية في فترة توجه الأهالي إلى صناديق الاقتراع لأجل حشد أكبر عدد من الأصوات إسهاماً في استمرار سلطاتهم.
كذلك فإن أعضاء اللجان الشعبية مالكون لبعض الأوراق الرسمية المهمة كشهادات السكن، وشهادات أخرى تدل على الحالة الاجتماعية لمن يريد إعالة وإعانة من المؤسسات الخيرية.
وعلى مستوى الخدمات، تمسك كل لجنة بمفاتيح الجمعية الخيرية لسكان الحي وسرادقها وبقية مستلزمات الأتراح والأفراح، أضف لذلك مهام إصحاح البيئة، وتسوية الشارع حتى لا يعثر الناس وبغالهم من البغال الحقيقية وحتى المركبات الحديثة.
عوامل ضعف
بعد عودة النشاط الحزبي مع عودة الحركة الشعبية وأحزاب التجمع، تحولت الأضواء والصراعات إلى مستويات عليا، وانضم الناس إلى ركب المعارضين، يقولون بأن لجانهم الشعبية عاجزة عن خدمتهم، ومستمرة مذ سنوات بذات الطاقم بلا تغيير في الوجوه وبلا تغيير في السياسات.
ومما ساعد على ضعف هذه المؤسسة المجتمعية، هو تصعيد الكادر الحاظي بالثقة الحكومية إلى مرتبات أعلى، ما أحدث فراغاً يصعب امتلاؤه، وتوقف الدعومات التي كانت تجدها هذه اللجان في مجال تقديم الخدمات، حتى بات بعضها يترجى المحليات لردم الشوارع وتصريف مياه الأمطار، فيما لجأ آخرون إلى حث الأهالي على جمع ما تيسر لإنارة الأحياء ورش البعوض.. الخ.
فيما كانت قاصمة الظهر تحول اختيار عضوية اللجان من الانتخاب إلى التعيين فكيف يمكن إقناع من لا يقبل وجودك في الأساس، حينما تدعوه هلم تعال وانتخبني.
جاذبية
يتوزع الأهالي بين مطالبين بحل اللجان الشعبية التي لا تربط ولا تحل، وبين داعين لإحياء سيرتها بسلسلة طويلة من الإجراءات، وبسك أهداف ورؤى جديدة قادرة على جذبهم مع التذكير بأنهم -الأهالي- لا يثقون في كبار الساسة عادة دع عنك بصغارهم في الدرجات الدنيا.
حدثني أحد رواد تجربة اللجان الشعبية، صديق بشاشة، في حوار سابق، بأنه ضد الحل، وقدم حلاً بخفض عضويتها إلى 7 أعضاء عوضاً عن 20 عضواً، شريطة أن يكونوا قادة مجتمعيين وفاعلين.
لكن مع الخفض والفاعلية، تحتاج تجربة اللجان الشعبية لمراجعات ضخمة، تستدعي إعادة نظام الانتخاب مع فسح المجال أمام الشباب للصعود وتعلم القيادة بغض النظر عن انتماءاتهم، وإعطاء ضمانات بتسخير موارد المحليات لصالح مقابلة طلبات الأهالي ممثلة في أعضاء اللجان. كما ويتوجب النظر بجدية لمطالب منظمات المجتمع المدني في أن تلعب هذه اللجان دوراً فاعلاً في حصر وتقييد الوجود الأجنبي.
بيد أنه لو استمر حال (أن أردت قتل أمر فكوِّن له لجنة)، فلتحيا أحياؤنا حياة طيبة، ولتقبر تجربة اللجان الشعبية بحلوها ومرها.

الصيحة