عثمان ميرغني

مطلوب.. بأعجل ما تيسر !!


أذكر قصةً رواها لي ضابط في الجيش السوداني.. كان قائداً لإحدى الدبابات التي حاصرت جامعة الخرطوم في أحداث مارس الشهيرة.. قال لي: (الطلبة المساكين كانوا يظنون أن الدبابة تستخدم المدفع فقط في اشتباكها فلا تصيب إلا الأهداف البعيدة فقط.. فاقتربوا منا، بل أحاطوا بنا ظناً أنهم آمنون كلما كانوا أقرب).
وروى لي الضباط أصعب لحظة في حياته.. قال لي (نظرت من داخل الدبابة فرأيت أول هدف أمامي.. كان شقيقي الطالب في الجامعة.. ومرت الساعات عصيبة ونحن ننتظر إشارة إطلاق النار التي كان يهدد بها الرائد أبو القاسم محمد ابراهيم الطلاب.. إلى أن انتهى الحدث كله بانفراج الأزمة بلا دماء)..
أعد قراءة سيناريو هذا الحدث التاريخي الذي يذكره كل السودانيين.. وحاولْ أن تمد خيالك لترى المشهد لو.. لو نطق القائد بكلمة (اضرب)!!.. كم من طلاب جامعة الخرطوم – خلاصة وعصارة الطلاب السودانيين- سينحرون على أبواب جامعتهم.. فقط بسبب (غياب الحكمة)..
بعدها بشهور قلائل وقع انقلاب يوليو 1971 الفاشل.. حكى لي أحد الضباط كان معتقلاً في قصر الضيافة؛ ثم لضيق المكان نقل مع بعض زملائه إلى معتقل بجوار القيادة العامة.. قال لي: (رن جرس التلفون أمام الضابط المكلف بحراستنا.. دقيقة واحدة؛ ووضع السماعة ورفع كوب الماء الذي أمامه ورشف منه جرعة وهو يردد عبارة “الليلة نشرب ما نروى”.. ثم قال للضباط المعتقلين.. هذه المكالمة حملت لي تعليمات بتصفيتكم جميعاً.. لكني لن أنفذها..) وفعلاً بينما نفذ حراس بيت الضيافة التعليمات فذبحوا (36) من خيرة ضباط القوات المسلحة المعتقلين العزل من السلاح.. أطلق هذا الضابط سراح معتقليه.. فنجو من الموت.. ونجا هو أيضاً بعد أن شهد له الضباط خلال محاكمات ما بعد فشل الانقلاب..
الذي أنقذ هؤلاء الضباط..هو(الحكمة)!!
من خلال قراءتي المستمرة لوثائق ووقائع تاريخنا المعاصر.. منذ الاستقلال وحتى اليوم؛ لفت نظري خيط رفيع يربط هذا التاريخ، ويكاد يجعله نُسَخاً مستنسخة رغم تقلب العهود السياسية المتباينة.. هذا الخيط الرفيع هو (غياب الحكمة)..!!
تابعوا تفاصيل “مذبحة الجزيرة أبا” المنشورة في الصفحة الخامسة من عدديْ أمس واليوم من صحيفتكم “التيار”، وتستمر الحلقات يومياً.. كارثة دموية كبيرة أدت لإزهاق مئات الأرواح البريئة في الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض؛ ثم هنا في مسجد السيد عبد الرحمن بحي ودنوباوي..
كل هذه الدماء والأرواح كانت في كف (غياب الحكمة).. بقليل من الحكمة والرشد والكياسة ما كان آلاف الأرامل واليتامى فقدوا أحبابهم بلا طائل أو ثمن..
لو كتبت صفحة كاملة لرويت لكم مئات الأحداث المفجعة في بلادي كلها كانت سليلة (غياب الحكمة).. لو.. فقط لو توفر لها صبر قليل مخلوط مع بعض الرشد والحكمة لما كانت..
اليوم.. نحن ننتظر هذه (الحكمة) بفارغ الصبر.. لإخراج بلادنا من النفق المظلم..
مطلوب حكمة..!!

التيار