الصادق الرزيقي

في العلاقة مع مصر


في كل الأحوال، لا يمكن القول في علاقة السودان ومصر بأكثر ما يقال في أي مستوى من مستوياتها من القمة حتى أدنى درجة، وأصبحت تجري على الألسن بالعادة والتطبع، عبارات ومفردات محفوظة ترددها الأجيال كل مرة، حتى باتت لا تعني إلا مظهرها وإطارها الشكلي المنطوق، حيث غابت في كل الحقب الوطنية تجسدات عملية لهذه العلاقة التي كان ينبغي أن تكون علاقة شراكة إستراتيجية لا تتأثر بالأنظمة والطارئ المستجد في علاقة الحكومات مع بعضها البعض . > أمس في أحاديث وتصريحات الرئيسين البشير والسيسي بالقاهرة، وردت العبارات والمفردات كما هي وكما عُهدت، لكن بدت هناك تغيرات طفيفة في لغة الخطاب الثنائي المتداول يغلب عليها الأمل والانتظارات أكثر من ملامسة الواقع بكل مراراته وتراجعاته. فالعلاقة بين البلدين تمر بفترة لا يمكن الاعتقاد أنها الأفضل في مسار تعاملات الجانبين وترابطهما، ويبدو أن ضرورات الراهن الماثل والظروف الضاغطة تلقي دائماً بظلال كثيفة للغاية على ما يجمع الخرطوم بالقاهرة في مختلف المجالات، فتأتي وتيرة العلاقة تناميها انعكاساً لما يجري وتعبيرا ًعما يحدث . > وظلت باستمرار أيضاً في كل الحقب الوطنية الماضية، توجهات معلنة و إرادات سياسية مقصرة لم تبلغ منتهى ما يريده شعبا وادي النيل، فما نشهده اليوم هو رغبة وتعامل وفق ما قررته الواقعية السياسية في العاصمتين بضرورة التعاون بين الطرفين لأنه لا خيار آخر وليس بالإمكان أفضل مما هو كائن .. فالقاهرة لن تستطيع انتزاع الخرطوم من قناعاتها وتوجهاتها، والخرطوم لن تتمكن من دفع القاهرة إلى أي اتجاه آخر . > وتقف الظروف والأوضاع في المنطقة برمتها لتجعل من تقارب العاصمتين من بعضهما أمرا ًلازماً لابد منه، فالعالم العربي المنقسم على نفسه والذي يعاني من أجواء تشطي وتباعد لم تحدث من قبل، لم يعد قادرا ًعلى توفير الظهير والسند وجعل كل بلد عربي يشعر بالتضامن والتعاضد كما كان، وفقدت الكثير من العواصم العربية ثقلها ووزنها السياسي السابق، وتحول مركز الثقل وبؤرة النشاط العربي من مكان لآخر، وتباعدت خطوط التلاقي والتأثير، وتغيرت المعادلات الإستراتيجية والأحلاف بشكل لم يكن متصوراً، كأنما يجري تشكل جديد وجغرافيا ترفع أقواما ًوتحط آخرين، في ذات الوقت تبدو إفريقيا التي ينتمي لها السودان ومصر، غير إفريقيا القديمة في عهد عبد الناصر والسادات، فالقارة السمراء حدثت فيها تحولات هائلة في مساراتها السياسية والاقتصادية وانفتحت على العالم الفسيح وصار لها صوت ينبغي الاستماع إليه والإنصات له، وقد شكَّل غياب مصر في عهد حسني مبارك عن إفريقيا فجوة عميقة في تواصل القاهرة مع محيطها الإفريقي، في وقت وجد السودان نفسه في خضم العمل الإفريقي المشترك مستفيدا ًمن مكانته التاريخية ودوره الذي لعبه في دعم حركات التحرر الإفريقية بالإضافة لمواكبته لما يسري في أوصال القارة من تجديد وعزم واتجاهات بنَّاءة جعلت من إفريقيا لاعبا ًمهماً في الملعب الدولي.. كما أن غياب مصر الذي أضر بها وبمصالحها في إفريقيا خلّف وراءه بؤراً من التوترات والأزمات والحساسيات ، خاصة في دول حوض النيل لا يمكن إغفاله والتعاطي معه من دون أن تموضع العلاقة السوانية المصرية في مسارها الصحيح. > رغم ذلك وفي هذه الأجواء المعتمة لا توجد عاصمتين مؤهلتين للتقارب مع بعضهما البعض، أكثر من الخرطوم والقاهرة، ولكن في سياقات جديدة ومفهوم محدد واضح للتعاون والترابط والتكامل والاعتراف بأخطاء الماضي والشكوك التي بعدت بين الطرفين، فإذا كانت هناك إرادة سياسية قوية وفاعلة ووضوح وصراحة وتقدير سليم من كل طرف للطرف للآخر وتفهم لظروفه، يمكن التوفر على تنسيق مشترك تزيد به الثقة وتتعدد المجالات والبرامج حتى تتطابق الكثير من الأفكار والتوجهات والعمل المشترك بما يخدم المنافع والمصالح المرسلة للشعبين . > اذا كانت عقلية الماضي سائدة وهي التي تسيطر وتقود في الجانبين، فلا فائدة ولا جديد. فأفضل تشبيه للعلاقة بين البلدين أنها مثل طقس البحر الأبيض المتوسط في نهاية الشتاء وبداية الربيع مطر وحر وبرد وغيوم لا تمطر، وهذا التقلب المزاجي سيستمر إن لم تحسم العلاقة في أبعادها الإستراتيجية ويقبل الجميع على بعضهم بقلوب وعقول مفتوحة..

الانتباهة