تحقيقات وتقارير

الحكومة تُمارس صمتاً مريباً أزمة المواصلات.. تجزئة الخطوط ترهق كاهل المواطنين


مواطنون يشتكون من زيادة التعرفة وسائقون يهجرون المواقف

غرفة النقل: دخول الحكومة قطاع النقل سبب الأزمة

وزير البنى التحتية: أعددنا خطة شاملة لإصلاح قطاع النقل

لا زلت أذكر ذلك اليوم وأنا حديثة عهد بالصحافة أقطع الفيافي يومياً من جبل أولياء للخرطوم يدفعني حب للعالم الجميل في نظري آنذاك والمجتمع اللامع الذي دخلته، وكنت في موقف المواصلات استعداداً لرحلة الأوبة، وقد قارب المغرب على الدخول، والناس يتكدسون في الموقف وهم يهرولون جيئة وذهاباً مع حركة الحافلات التي لا يتناسب عددها مع أرتال المنتظرين، وأنا في الانتظار جاءت (روزا) تتبختر وقد هرول الجميع وأنا منهم باتجاهها كل يمني نفسه بمقعد، وبما أنني غير مؤهلة (للمدافرة) فقد اختصرت الطريق وألقيت بشنطتي (الجديدة) التي اشتريتها بعد معاناة مع المرتب الذي أخجل عن ذكره هنا، وقد قلت لشاب نظيف يجلس على المقعد المجاور (عليك الله احجز لي معاك بشنطتي دي) فرحب بذلك ولكن عندما صعدت بصعوبة وجدته قد نزل من الحافلة وبصحبته شنطتي العزيزة الخالية من المال خلا بعض الجنيهات.

تذكرت تلك الواقعة وأنا أفعل ذات الشيء وألقي بشنطتي وشنطة زميلتي إنصاف على مقعدين بإحدى الحافلات ليتسنى لنا زيارة زميلة لنا مريضة شفاها الله، مما حدا بإنصاف لأن تقول لي وهي تضحك:(سبحان الله ما نسيتي مهاراتك في المواصلات مع أنك فارقتيها قبل ست سنوات بعدما ما عملتي ليك عربية)!

الشاهد في ذلك أن أزمة المواصلات لم تبارح محلها منذ سنين عددا رغم أن الحكومة لم تكن قد دخلت وقتها في قطاع النقل، ولم يكن للقطاع الخاص منافس بعكس ما يبرر به بعض العاملين في القطاع الأزمة الحالية.

*ستة بدلاً عن اثنين
في أم درمان كان خط الفتيحاب – صالحة من أكثر الخطوط وفرة للمواصلات والتعرفة بجنيه واحد تعارف عليها الجميع، إلا أنه فجأة ودون مقدمات ارتفعت التعرفة إلى جنيهين دون مبرر خاصة وأن الخط معروف عنه بقربه الشديد باعتبار تعرفة الخط من الخرطوم إلى الصالحة بجنيهين فقط، فلماذا إذاً تكون التعرفة من الفتيحاب إلى الصالحة بجنيهين بدلاً من جنيه؟ هذا السؤال طرحه المواطن علي أحمد من الصالحة الذي زاد من غضبه أن الذى يريد الوصول إلى الصالحة من الخرطوم عليه أن يركب ثلاث مواصلات هي أصلاً غير مدرجة في الخطوط المعروفة أو الرئيسية أولاً من الخرطوم إلى المهندسين محطة (سراج) بجنيهين، ومن ثم من المهندسين إلى الفتيحاب بجنيهين، ومن الفتيحاب إلى الصالحة بجنيهين يعني ستة جنيهات للوصول إلى الصالحة بدلاً عن جنيهين إضافة إلى أن هنالك خطوطاً أخرى تتفرع من الفتيحاب ومنها إلى مناطق جادين غرب الصالحة وكانت التعرفة فيها بجنيه ونصف الجنيه لقربها الشديد إلى الفتيحاب، ولكن الآن وصلت التعرفة التي يضعها الكماسرة إلى خمسة جنيهات في أوقات الذروة وثلاثة جنيهات على الرغم من أن المسافة التي تقطعها الحافلة لا تتعدى الـ15 دقيقة فقط، هذا الأمر أدى إلى حدوث مشادات بين المواطنين وسائقي تلك الحافلات الذين يزعمون بعدم وجود تعرفة ويتعللون بارتفاع أسعار الاسبيرات والصيانات وارتفاع تكلفة الترخيص.

* 30 جنيهاً يومياً
ويعتبر جسر المنشية أحد الكوابيس المرعبة التي تلاحق قاطني مناطق شرق النيل والذين لديهم ارتباطات يودون إنجازها بعد عبور الكبري والناظر للكبري من أعلى يرى وكأنه مغطى بطبقة من الحديد المهترئ والسيارات تحبو على ظهره في سحلفائية، والمعروف في جميع أنحاء العالم أن هناك ساعات ذروة وزحمة لكن في كبري المنشية أصبحت سمة ملازمة له.

ولعل أكثر ما يجرع المواطن سموم الحر والإرهاق هو رفض أصحاب المركبات العامة نقل المواطنين للمناطق التي يجب أن تمر بالجسر، فهم يقولون مثلاً الوحدة بالحلة وشارع واحد بالحلة والجريف شرق بالحلة، أو أم يقومون بنقل ركاب السامراب والدروشاب وغيرها والغريب أن أصحاب “الأمجاد” المرابطين بالنفق يرفضون نقل المواطنين طرحة مقابل عشرة جنيهان للمواطن ويطلبون 15 جنيهات حتى لا يحملوا الأمجاد أكثر من طاقتها أو يتركون المواطنين يصطلون بالحر ليجبروا على استئجارهم.

والغريب في الأمر أن السلطات التزمت الصمت إزاء ما يحدث، وكأنها لا علاقة لها بالأمر فمن أين لمواطن راتبه بعد الخصومات 1200 أن يصرف 30 جنيه على المواصلات يوميًا.

*10 جنيهات
وفي موقف مواصلات جبل أولياء فلا وجود للحافلات الكبيرة التي خرجت من المواقف بسبب التعرفة غير المجزية في نظرهم بينما تركت المجال للحافلات الصغيرة ومعظمها (ملاكي) ومن ثم تتلاعب بالتعرفة حسب الزحمة الموجودة بالموقف، ورغم أن التعرفة الرسمية لجبل أولياء للحافلة الصغيرة لا تتجاوز الـ6 جنيهات (نسيت التعرفة الأصلية لأنها غير موجودة بالموقف) إلا أن السائق (لو مزاجو رايق) يجعلها 10 جنيهات وإلا فهو يضع عليها ما يشاء من أرقام. وفي الغالب الأعم يتم تقسيم الخط الواحد إلى مراحل وكل مرحلة بتعرفة جديدة.

*حكومة غير جادة
من جانبه تساءل أحد معاشيي القوات النظامية عن أين ذهب أسطول النقل من البصات الذي استوردته الولاية وصاحب ذلك حملة واسعة، لكن ناتجها كان صفراً كبيراً، وقال إن هذا فساد واضح تغافلت عنه الولاية، وخرجت من مأزقه ببيع تلك البصات المضروبة التي تم استيرادها للمواطنين الذين دخلوا السجون بدلاً من المسؤولين الذين استوردوها بمواصفات رديئة للغاية وأفلتوا من المحاسبة والعقوبة، وهذا يؤكد أن الولاية غير جادة في حل المشكلة بقدر ما هي مهتمة مع مسؤوليها بالسمسرة في خدمات المواصلات وجني الأرباح حسب حديثه، وطالب حكومة الولاية بإظهار جديتها في حل الإشكال حتى لا يحدث تذمر وسط المواطنين.

*غير مجزية
اعترف السائق الأمين علي الأمين العامل بخط الحاج يوسف عندما حاصره المواطنون بأن مواصلات الرحلة حتى الخرطوم لا يجدي نفعاً معه وبرر ذلك بأن التعريفة أصبحت غير مجزية رغم التعديل الذي تم عليها بمبادرة من اللجان الشعبية إذ تمت إضافة (50) قرشاً على التعريفة المقررة من إدارة النقل بالولاية لتصبح (2) جنيه لكنه قال إنها أيضاً غير مجزية نسبة لارتفاع قيمة الإسبيرات وقطع الغيار التي معظم المطروح منها في الأسواق غير أصلي وخاصة الإطارات ونوه إلى أن أغلب العربات العاملة في خطوط المواصلات الطويلة لجأت إلى حل تجزئة أو تقسيم الخط لأكثر من ثلاث رحلات وأيضًا لم تغط إضافة للاحتجاج المستمر من الركاب والدخول معهم في اشتباكات كثيراً ما تقوده مع الكمساري لقسم الشرطة إضافة إلى أن هذه الطريقة فيها شبهة حرمة للمال الذي يُتحصل لأن فيها ظلم بالتحايل على المواطن الذي هو أصلاً لا يملك قيمة دفع التذكر مضاعفة، ويواصل الأمين قائلاً: (أضف لذلك زحام الشوارع الذي يمكن أن يجعل الرحلة تستغرق أكثر من ساعتين للوصول لنقطة النهاية في الإستاد.

*راحتكم أهم
ويرى رئيس الهيئة الفرعية للعمال وسائقي الحافلات ولاية الخرطوم الأستاذ شمس الدين أن لجوء أصحاب المركبات لزيادة التعرفة بمزاجهم مرتبط بمنصرفات العربة الكثيرة. وقال إن “الملاكي بقطع 3 إيصالات كمخالفات مرورية عشان كدة بوزن تعرفته حسب منصرفاته، وقال إنها لن تكون مجزية حتى لو تضاعفت 100% وزي البنرحل الناس مجاناً”.

*دخول الحكومة
أمين أمانة الاستثمار بغرفة النقل العام ولاية الخرطوم عوض الكريم عبد الماجد سألته إن كانت أزمة المواصلات مفتعلة أم حقيقية، وما هي أسبابها إن كانت حقيقية فأجاب: (الأزمة حقيقية والسبب دخول الحكومة في قطاع المواصلات عن طريق هيئة تنمية الصناعات الصغيرة، وقال: عندما كان القطاع الخاص يدير المواصلات لم تكن هناك أزمة، ولأن تكلفة التشغيل عالية ظلت بصات الهيئة متوقفة، لأنه لم يتسن لها الحصول على الإسبير، أما بصات ولاية الخرطوم التي تحولت إدارة جزء منها لشركة البرمت فقد تعطلت هي الأخرى لسوء الإدارة).

ويضيف عوض الكريم سببًا آخر لأزمة المواصلات تسببت فيه الحكومة أيضاً حين أصدرت قراراً بإيقاف استيراد العربات المستعملة ولم تستثن قطاع النقل، ثم عملت خطة إحلال للعربات الموجودة (حافلات) بعربات ذات سعات كبيرة (بصات) وكان من الأفضل أن يتم الإحلال والإبدال على مراحل بحيث تصان الحافلات عن طريق إنشاء بنك متخصص للنقل مثل بنك الأسرة وبنك العمال وبنك الشباب، ويضيف: (أشرنا لذلك أكثر من مرة لأنه سيكون بنكاً ذا خصوصية فالحافلة عندما تتعطل لا تنتظر الدورة المستندية الموجودة في البنوك أو مؤسسات التمويل الأصغر وهذه البنوك تم اللجوء إليها بعد ارتفاع أسعار الإسبيرات وعدم ثبات الدولار فأصبح التاجر لا يوفر الإسبير بالأقساط أو الدين الآجل، لأنه قد يرتفع الدولار في الغد والبضاعة موجودة بالمخازن فيحاول البيع بـ(الكاش) لأن الإسبيرات تكلفتها عالية، ومن ثم فالحل يكمن في اللجوء لقطاعات التمويل، ويردف: (هذا حل مؤقت ولكن وجدنا أن التمويل يمر بدورة مستندية طويلة، والسيارة تكون متعطلة وصاحبها متعطل عن العمل، ولا يملك مصاريف أولاده وتتراكم عليه الديون وينتج عن ذلك مشاكل كثيرة، ولكن عندما نقوم بصيانة كل الحافلات وندخل البصات بعد صيانتها تدريجياً بنسب محدودة مثلاً كل شهر مائة بص سنحقق وفرة في قطاع النقل، ولكن الإحلال المفاجئ خلق أزمة”.

قلت لعوض الكريم إن السائقين إضافة لمسؤولين يتحدثون عن التعرفة باعتبارها غير مجزية، فهل هذا سبب من أسباب أزمة المواصلات؟ فأجاب بقوله: (ما في صاحب عربية بقيف لأنه التعرفة ما مجزية، لكن لأن العربية متعطلة يجبره على الوقوف”. ولفت إلى أن غرفة النقل طرحت حلاً ينفذ عبر البنوك أسمته (تفعيل وسائل النقل المعطلة وإدخالها الخدمة) لتوفير الإسبيرات بصورة جماعية، ولكن هذا يحتاج دعماً من الدولة وتحملها بعض المصروفات الإدارية، وإذا توفر ذلك فالغرفة مستعدة لإدخال مائة حافلة يومياً في الخدمة .

*حلول متكاملة
في حوار سابق مع وزير البنى التحتية بولاية الخرطوم المهندس حبيب الله بابكر سألته عن أسباب أزمة المواصلات ورؤية أو خطة الوزارة للحل، فأجاب بأن التناول الجزئي للمشكلة يصبح مخلاً إذا قلنا (هذا هو الحل)، ما لم نناقش كل محاور المواصلات (وسائل النقل ومواعينها، البنيات التحتية، نظم التشغيل، التعريفة، محور الشركة كجزئية)، إضافة لتحسين البيئة بإصلاحات بقرارات ربما تكون تشريعية أو إدارية وبين أنه صمم خطة شاملة سميت (الخطة الشاملة لتحسين قطاع النقل).

سألته إن كانوا سيصدرون تشريعات وقرارات جديدة، فصحح بأنهم سيعدلون التشريعات القديمة، وقال إن البنية التحتية في المواقف بها إشكالات كبيرة والخطة الرئيسية غير موحدة وقد أصابتها تعديات كبيرة في المداخل والمخارج فيجد البص صعوبة في الدخول والخروج، والمواقف القديمة يجب أن تحسن والجديدة يجب أن تُنشأ بشكل مختلف حيث تكون مرتبة المداخل والمخارج مواصفتها وسعتها مدروسة بصورة جيدة، وبخصوص نظم التشغيل أقر الوزير بعدم وجود سياسة واضحة فالحافلة أو البص يمكن أن يشتغل خط أو مناسبة بمزاجه 3 فرد أو 5 في الوقت الذي يحب! ومن ثم قال الوزير إن نظاماً جديداً للتشغيل سيطبق بالطريقة السليمة عبر نظام تتبع إلكتروني وستوزع الخطوط بمنهجية صحيحة .

حبيب الله أقر كذلك بأن بصات الولاية تغطي 5% فقط من حاجة الولاية للمواصلات ولكن هناك اجتهاد لرفع النسبة إلى 15% ولكني وجدت أن طموح الوزير غير منطقي في ظل تحول معظم البصات لخرد بعد تشليعها وتفرق دمها بين شركة المواصلات وهيئة تنمية الصناعات الصغيرة وشركة البرمت؟ وعندما واجهته بذلك قال لي: (التي تتحدثين عنها هي بصات مُلِّكت لأفراد، وقرار التمليك جيد ولكن التطبيق تم بصورة خاطئة والعقودات ضعيفة، والبصات لم تعمل أو عملت لفترات قصيرة وعجز من ملكوا البصات عن السداد، وبالتالي هناك حوالي500 بص هي التي تجدينها مشتتة في الأطراف بل هناك 13 بصا فقدت، شكلت لجنة أدخل فيها المستشار القانوني والشرطة وكل الأطراف المعنية وتم حصر البصات على مستوى السودان ووجدوها (مشتتة) بعضها أصبح خردا، وشكلنا لجنة أخرى بعد الحصر لاسترجاع تلك البصات واتخاذ الإجراءات الإدارية والقانونية بشأن المتعاقدين وعملنا دراسة مفصلة لتكلفة التشغيل وهذه إحدى العقبات واللجنة أدخلنا فيها كل الأطراف (أصحاب العمل، النقابات، المحليات، المالية، الاقتصاديون) وفعلاً وجدنا فرقا كبيراً بين تكلفة التشغيل والتعرفة لذلك أصحاب البصات والحافلات يلجأون لأسلوب غير قانوني بتكسير الخط وزيادة التعرفة من غير قرار فنظرنا فيها بواقعية، وبحثنا عن أصحاب المصلحة والشركاء بكل جزئية وخرجنا بتوصية وقرار وتبقى بعد ذلك القرارات المهمة في تطبيقها وقد تم ذلك في ورش كبيرة .

*استثناء الموديل
أمين الاستثمار بغرفة النقل عوض الكريم عبد الماجد دعا الحكومة لاستثناء قطاع النقل من الموديل عند الاستيراد. وفي هذا يقول وزير البنى التحتية إن ضمن التوصيات الخطة التي وضعتها الولاية مقترح للحكومة الاتحادية بتخفيض الجمارك على قطع غيار (المركبات العامة) واستثنائها من فرق الموديل، وأن يتم الاستيراد عبر شركات تعمل في النقل وليس أفرادا، أنا أنهيت لها مشكلة التعرفة وفرق الموديل والجمارك، وعملت بجهد مقدر ومازلت في تأهيل البنيات التحتية، وأنهيت مشكلة التقاطعات في القوانين والصلاحيات بين المحلية والولاية.

تحقيق: هويدا حمزة
صحيفة الصيحة