منوعات

أمريكا والحوار الوطني


في الثالث عشر من أغسطس 2013 نشر معهد السلام الأمريكي ورقة بعنوان “الطريق إلى الحوار الوطني في السودان” كتبها المبعوث الأمريكي السابق للسودان “برنستون ليمان” بالإشتراك مع المدير السابق لبرنامج إفريقيا بالمعهد “جون تيمين”.

إشتملت الورقة على رؤية متكاملة لكيفية بداية حوار يؤدي لإصلاح وطني في السودان، بإعتبار أنَّ الحوار هو أفضل مسارات ( السير للأمام لدولة لا تجد أمامها خيارات جيدة. وبدون مثل هذه العملية، لن تسمح للسودان فرصة للتغلب على دوامة عدم الاستقرار الهدامة ).

قالت الورقة أنَّ السودان ( يحتاج بصورة ملحة للشروع في إجراء حوار وطني، وعملية إصلاح يديرها الشعب السوداني بنفسه ويدعمها المجتمع الدولي )، وأنَّ هذه العملية ( ينبغي أن تكون واسعة لأقصى حد، وأن تشمل عناصر النظام الحالي، والإسلاميين، وجماعات المعارضة المسلحة وغير المسلحة ).

وأضافت الورقة أنه ( لضمان نجاح أي حوار وطني، ينبغي إشراك أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني بطريقة جادة. ومن المرجح أن يسفر هذا عن إبطاء العملية وجعلها أكثر تعقيداً، ولكنه يجعل الاتفاقات أكثر ديمومة أيضاً ) موضحة أنَّ هذه العملية يجب أن تؤدي إلى قيام ( حكومة ممثلة لقاعدة واسعة، وديمقراطية وقادرة على السعي نحو عملية مصالحة مجدية بين السودانيين ).

وأشارت الورقة إلى أن عملية الحوار المقترحة يجب أن تستند إلى مفهوم “التوافق الكافي” الذي وقع تطبيقه في عمليات التفاوض المُطوَّلة التي جرت من أجل إنهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، حيث إستحال التوصل إلى إجماع توافقي عام نظراً للتاريخ الطويل من الانقسامات العميقة بين الجماعات المختلفة، ولذلك تم التركيز على الحزبين الرئيسيين ( المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الوطني الحاكم).

وإقترحت الورقة أن يتم تقديم الإشراف والدعم الخارجي اللازم لهذه العملية بشكل أساسي ( من قبل فريق التنفيذ رفيع المستوى التابع للاتحاد الأفريقي، وهو هيئة متخصصة قام الاتحاد بإنشائها في عام ٢٠١٠ ، ويرأسها رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي ).

بعد خمسة أشهر من نشر هذه الورقة أطلق الرئيس البشير في يناير 2014 دعوة الحوار الوطني عبر خطاب “الوثبة” الذي دعى فيه كافة القوى السياسية والمسلحة للدخول في حوار حول قضايا الحكم والإقتصاد والهوية والعلاقات الخارجية.

في أعقاب دعوة الرئيس البشير، أدلى المبعوث الأمريكي الحالي للسودان “دونالد بوث” بشهادة أمام لجنة أفريقيا المتفرعة من لجنة الشئون الخارجية بالكونغرس قال فيها إنَّ ( خطاب الرئيس البشير (الوثبة) يمثل فرصة تاريخية لحل النزاعات في السودان إذا كان الحوار كلياً وشاملاً ولا يقصي أحداً ).

وقال كذلك : ( النزاعات في السودان تمثل مؤشراً للفشل واسع النطاق للحكم بصورة عادلة وجامعة ، ويجب على المجتمع الدولي الا يسمح للخرطوم بمواصلة التعتيم على القضايا الوطنية من خلال تصويرها كنزاعات إقليمية معزولة، ولا يمكن أن نسمح لهم بتمرير أي عملية وطنية شكلية لا تتضمن التمثيل والمشاركة الحقيقية لجميع مستويات و أقاليم السودان ).

الموقف الأمريكي الذي أبرزته ورقة معهد السلام وشهادة المبعوث في الكونغرس يؤكد ضرورة أن يكون الحوار “كلياً وشاملاً ولا يُقصي أحداً” وأنهم لن يسمحوا بتمرير “أي عملية وطنية شكلية” لا تؤدي إلى مشاركة حقيقية لجميع المستويات والأقاليم في السلطة.

وغنىٌ عن القول أنَّ هذه المقترحات جاءت في إطار الموقف الأمريكي الإستراتيجي الرافض “لإسقاط” النظام بالقوة العسكرية وهو الموقف الذي كان قد عبَّر عنه في السابق الدبلوماسي الأمريكي رفيع المستوى “دان سميث” مساعد المبعوث الأميركي الخاص في السودان في دارفور عندما قال في إطار حديثه عن تحالف الجبهة الثوريِّة (كاودا ) 🙁 قلنا لتحالف الجماعات المتمردة، بأننا لن نؤيد الإطاحة بالحكومة بالقوة).

سارت عملية الحوار التي أشرفت عليها الآلية الإفريقية على ذات المنوال الذي إقترحته الرؤية الأمريكية، وأدَّت إلى فرزٍ واضح في مواقف قوى المعارضة بحيث أصبح تحالف “نداء السودان” الذي يضم الحركات المسلحة الرئيسية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والأحزاب السياسية التي يتزعمها حزب الأمة والطرف الحكومي وحلفائه من الأحزاب يمثلون “التوافق الكافي” الذي دعت له ورقة معهد السلام.

أدَّت المفاوضات بين الطرفين للتوقيع على “خارطة الطريق” للسلام والحوار التي وضعتها الآلية الإفريقية، وكذلك دخلت الحركات المسلحة في حوار مع الطرف الحكومي للوصول إلى إتفاق حول وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية.

في أعقاب تعثر المفاوضات الأمنية بين الحركات المسلحة و الحكومة، أعلنت الأخيرة أنَّ قطار الحوار لن ينتظر تحالف نداء السودان وسارعت بإعلان نهاية الحوار الداخلي في العاشر من أكتوبر، واحتفلت مع حلفائها بإجازة توصيات الحوار وتوقيع “الوثيقة الوطنية” التي قالت أنها ستكون الأساس لوضع الدستور الدائم للبلاد.

سارعت الإدارة الأمريكية في الثامن من هذا الشهر، وقبل إجازة توصيات الحوار الداخلي، بتوضيح موقفها في بيان أصدره الناطق الرسمي بإسم الخارجية “جون كيربي” قال فيه إن ( إنهاء الحوار في هذه المرحلة قد يعيق بشكل كبير المفاوضات الخاصة باتفاقيات وقف العدائيات مع المعارضة المسلحة كما يمكن أن يوقف استكمال مفاوضات خارطة الطريق التى طرحتها لجنة التنفيذ العليا التابعة للإتحاد الأفريقي ).

وجدَّد فيه موقف الإدارة الأمريكية تجاه الحوار بالقول : ( نعتقد أنه من المهم جداً بذل الجهد لاجراء حوار وطني شامل وجامع وممثل لكافة الفرقاء بمشاركة كافة القوي السياسية والمعارضة المسلحة لأجل تحقيق سلام دائم بهدف إنهاء أزمات السودان الداخلية ).

وكذلك طالب كيربي الحكومة بأن تعتبر حوار الداخل ( بمثابة “مرحلة أولى” والتفاوض مع المعارضة للمشاركة في عملية حوار شامل وجامع حسب ما هو محدد في “إتفاقية خارطة الطريق” التى طرحتها لجنة التنفيذ العليا التابعة للإتحاد الأفريقي والمبرمة بواسطة الحكومة والمعارضة ).

لا شك أنَّ المراقب للأوضاع الداخلية يلحظ بوضوح أنَّ السبب الرئيسي الذي دفع الحكومة السودانية للإستجابة للخطة الأمريكية للحوار هو تفاقم “الأزمة الإقتصادية” بشكل كبير، أملاً منها في أن يؤدي الحوار إلى إيجاد حلول للأوضاع الإقتصادية المتدهورة والناجمة في جزء منها عن الحصار الخارجي.

قد إستحكمت الضائقة المعيشية وارتفعت أسعار السلع الإستهلاكية بصورة جنونية، وبلغ العجز في الميزان التجاري حوالى 5 مليار دولار،وكسر سعر صرف الدولار حاجز ال 15 جنيها، وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر هذا الشهر فقد إنخفض احتياطى النقد الاجنبى إلى “ما يساوى شهر ونصف فقط من كلفة الواردات” وبلغت ديون السودان الخارجية حوالى 50 مليار دولار ( 61% من الناتج المحلي الإجمالي).

قد قال صندوق النقد في تقريره الأخير أنَّ ( حشد الدعم الدولى لتخفيف عبء الديون أمر بالغ الأهمية لتحقيق التنمية الاقتصادية فى السودان وان استمرار التواصل مع الشركاء الدوليين لتأمين الدعم الشامل لتخفيف عبء الديون من شأنه ان يمهد الطريق امام الاستثمار الاجنبى وتمويل النمو والحد من الفقر ).

تُدرك الحكومة جيِّداً أن الدولة الوحيدة القادرة على “حشد الدعم الدولي” و فك العزلة التجارية والإقتصادية المضروبة على السودان هى الولايات المتحدة، وهى كذلك الدولة الوحيدة القادرة على الضغط على مكونات قوى نداء السودان من أجل مواصلة التفاوض للوصول للحل الأمني والإنساني في مناطق الحرب ومن ثم الشروع في الدخول في الحوار الشامل مع الحكومة.

وكان وزير الخارجية الأمريكي قد أبلغ حكومة السودان في وقت سابق – بحسب حديث المبعوث دونالد بوث – بأنَّ بلاده ( لن تشرع في إجراء أي تحسينات ذات مغزى في العلاقات الثنائية حتي تقوم الحكومة السودانية بإحداث تغيير جذريّ في الطريقة التي تعامل بها مواطنيها ).

التغيير الجذري الذي يؤدي لتحسين العلاقة مع أمريكا لا بد أن يتم عبر التعاطي مع المطلوبات التي تم على أساسها وضع خطة الحوار الوطني من قبل معهد السلام، والمتمثلة في وقف الحرب وإجراء حوار شامل.

وهى جزء من المطلوبات التي عرضها دونالد بوث على الحكومة السودانية في يوليو الماضي عبر ما أسماه “بخارطة الطريق” لطى الملفات العالقة بين البدين خلال مائة وثمانين يوماً، والتي إشتملت على أربعة بنود : وقف الحرب الأهلية وتحقيق تسوية سلمية شاملة، أن تلعب الخرطوم دوراً إيجابياً في الحرب الأهلية بجنوب السودان، أن تواصل الحكومة تعاونها مع واشنطون في حربها ضد الإرهاب، وأن تقوم الحكومة بمساعدة الإتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة غير الشرعية.

وبما أنَّ أطراف الحوار الوطني السوداني،حكومة ومعارضة، قد بلغت حالة مذرية من الإنهاك وإنعدام الثقة المتبادلة مما جعلها تُفسح المجال واسعاً أمام الأطراف الخارجية – خصوصاً أمريكا – للعب دور أساسي ومتعاظم في قيادة دفة الحل السياسي، فإنّهَ من المتوقع أن تتراجع الحكومة عن موقفها القائل بإنتهاء الحوار وأن تستجيب لمطلب الإدارة الأمريكية بإعتبار ذلك الحوار “مرحلة أولى” تعقبه عملية أوسع من التفاوض والحوار مع قوى نداء السودان.

وفي حال إصرار الحكومة على المُضي قدماً في تنفيذ توصيات الحوار والشروع في إعداد الدستور الدائم وتشكيل الحكومة القومية، فإنَّ ذلك سيعني إستمرار الوضع السياسي الراهن وعدم حدوث أية تقدم فيما يتعلق بحشد الدعم الدولي وتحسين العلاقات مع أمريكا من أجل كسر طوق العزلة التجارية والعقوبات الإقتصادية.

وهو كذلك يعني تجميد العملية التي سعت لها واشنطون وفقاً للرؤية التي طوَّرها معهد السلام، وهو أمرٌ يأتي متزامناً مع إجراء الإنتخابات الرئاسية الأمريكية مما يوحي بتباطؤ التعاطي مع هذا الملف من الجانب الأمريكي في الشهور القادمة و إلى حين وصول رئيس جديد للبيت الأبيض.

سودان تربيون