منوعات

كيف ساعدت اللغة العبرية على قيام دولة إسرائيل؟


عُرفت بأنها أكبر عملية إحياء لغة ميتة في التاريخ. ويرجع الفضل في ذلك لجهود «إليعازر بن يهودا»، الذي يعتبر رائد حركة إحياء اللغة العبرية الحديثة.

إليعازر بن يهودا

تأثر بن يهودا بالحركة التنويرية اليهودية، والأفكار الاشتراكية والقومية التي كانت سائدة في أوروبا حينها. حملت تلك الأفكار مفاهيمَ غلب على بعضها العصبية القومية مثل «الشعب العضوي»، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا في أرض خاصة به، وهوية وثقافة مستقلة تجمعه، وينبذ كل من غير ذلك.

نشر بن يهودا أولى مقالاته باللغة العبرية في عام 1879، طارحًا فكرة العودة لصهيون، وإحياء اللغة العبرية القديمة.
لا وطن لليهود دون اللغة العبرية

آمن بن يهودا أن إحياء اللغة العبرية وإيجاد وطن لليهود مرتبطان بشكلٍ وثيق ببعضهما البعض؛ فتحقيق أحدها شرط أساسي للآخر. ووجود اليهود في دول الشتات يعني اندماجهم لغويًا وثقافيًا مع مجتمعاتها؛ أما هجرتهم لفلسطين فستسمح بظهور ثقافة ولغة مستقلة.

استقر بن يهوذا في فلسطين عام 1881 مع زوجته، وحصل على تصريح باستخدام اللغة العبرية في تدريس الموضوعات اليهودية. شارك بعدها في العام نفسه في تأسيس جمعية صهيونية نشرت فكرة القومية، وإحياء اللغة العبرية لغةً يومية، والأدب العبري الحديث.

كرس بن يهودا عمله خلال سنوات عديدة متواصلة لإقناع المتشككين بإمكانية إعادة إحياء العبرية مرة أخرى. لكنه على الوجه الآخر لم يسلم من معارضة الطوائف اليهودية لاستخدام اللغة العبرية في غير الأغراض الدينية باعتبارها لغة مقدسة.

أدى اقتصار اللغة العبرية قديمًا على العبادة، وكلغة يمارسها رجال الدين وحسب إلى جعلها عاجزة عن التعبير عن جوانب الحياة الإنسانية المختلفة. لذا عكف بن يهودا على تطوير اللغة العبرية القديمة باشتقاق ألفاظ وعبارات جديدة والاستعانة باللغة العربية. وأسس جمعية اللغة العبرية عام 1889. وألزم أبناءه بالحديث باللغة العبرية؛ فكانوا أول من تحدث العبرية الحديثة كلغتهم الأم.
اللجنة الأولى للغة العبرية، القدس 1912

حث بن يهودا في عام 1919، هربرت صمويل، المندوب السامي البريطاني على إعلان العبرية إحدى اللغات الثلاث الرئيسة في فلسطين. وذلك بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني لفلسطين. وبعد ثلاث سنوات أقر الانتداب البريطاني اللغة العبرية باعتبارها إحدى اللغات الرسمية في البلاد.

تعد أبرز أعمال بن يهودا على الإطلاق هو المعجم العبري القديم والجديد، الذي جاء في تسعة مجلدات واستغرقت كتابته 40 عامًا من العمل. أكملت جمعية بن يهودا بعد تحولها لأكاديمية اللغة العبرية مشروعه اللغوي الكبير، فأكملت المعجم في سبعة عشر جزءًا كاملًا عام 1959.
اللغة العبرية لغةً قومية

قد يتساءل البعض عن سبب اختيار اللغة العبرية مع أن الجماعات اليهودية آنذاك كانت تتحدث أكثر من لغة منها: اليديشية واللادينو. إلا أنه من جانب، تمثل اللغة العبرية في الفكر الصهيوني قيمة من الماضي يتوجب الحفاظ عليها. لذا وقع الاختيار على هذه اللغة دون غيرها لتكون اللغة القومية المنتظرة.

وعلى الجانب الآخر، كان للحركة الصهيونية منذ بدايتها أبلغ الأثر في القضاء على اليديشية، فصدرتها باعتبارها لغة المنفى. وصار التخلص من اللغة اليديشية لليهود في دول الشتات حتميًا، وتكوين الفكر العبري المعاصر القائم على أرض فلسطين متخذًا من اللغة العبرية وعاء لهذه الثقافة والتراث. فاختفت اللغة اليديشية ولم تعد تستخدم.

كرست العقيدة الصهيونية جهودها لإحياء العبرية عبر الاهتمام بالأدب العبري والترجمة والبحث اللغوي، وممارسة اللغة في الحياة اليومية، بجانب التعليم والمسارح.
«الأدب العبري» من الشتات لدولة إسرائيل

هو «الأدب الذي استطاع أن ينشئ دولة» على حد وصف أحد النقاد الصهيونيين. وتعود أولى الأعمال الأدبية لعام 1856 وهي رواية «محبة صهيون» للأديب اليهودي إبراهام مابو، رائد القصة العبرية، ونشرت في روسيا. كان للرواية دور محوري في شيوع الحركة الصهيونية، وتأجيج الشعور بالحنين لوطن على أرض فلسطين.

تبعتها عدد من الأعمال الأدبية الأخرى من روايات وقصص وأشعار كُرست لخدمة الحركة الصهيونية، والتي بدورها عملت على تشجيع المفكرين والمشتغلين بالأدب في الخارج على الاستقرار بفلسطين، والمساهمة في تحويل اللغة العبرية من لغة قديمة ميتة اقتصر استخدامها على العبادة إلى لغة للأدب والحوار.

فانطلقت الأعمال من خارج فلسطين قبل بدء هجرة اليهود إليها وبعدها وفقًا للمخطط الصهيوني لإنشاء وطن قومي يجمع اليهود على أرض فلسطين، والذي وضعه هرتزل. وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، تطور الأدب ليصبح الأدب العبري المعاصر خاصة مع إنشاء المطابع والصحف والمجلات العبرية.

مجدت كذلك المسرحيات العبرية الشخصية اليهودية، ولعبت دورًا هامًا في القومية الصهيونية، والتي تزامنت مع إعلان الدولة الإسرائيلية، فكان لمسرحية «في صحراء النقب» السبق في كشف ملامح الفكر الصهيوني، وقضية الوطن عند اليهود.
«العربية».. لغة الآخر «المنفيّ»

كرست الثقافة الصهيونية اللغة العبرية كعلامة هوية تربط اليهود جميعًا؛ فهي التي تفرقهم عن غيرهم وبالأخص العرب ولغتهم العربية، التي اعتبرتها لغة الآخر الضعيف فهو الأجنبيّ المنفي.

عملت الثقافة الصهيونية على تجنيبها ووصمها بلغة الضعفاء، ومحو أي روابط بين كل من الشعبين. حتى يتكون هذا الحد الفاصل ما بين اليهودي وغير اليهودي، ولإيجاد تلك الوحدة العضوية في أرض واحدة يعيش عليها اليهود والعرب، بجانب تعذر محو ثقافة العرب ولغتهم في هذه البلاد.
اللغة العبرية هويةً

رسخت الشخصية الصهيونية اللغة لا الدين باعتبارها هوية وثقافة قومية، فعملت تحت شعار «آخر يهودي وأول عبري».

وحول بن يهودا المفهوم اليهودي للخلاص بانتظار الماشيح لتخليص الشعب اليهودي من معاناته إلى العودة لفلسطين واستيطانها؛ فمن يلبي لها النداء هم من النخبة الذين يرفضون الشتات والانتظار السلبي، ويجتمعون في وطن عضوي يهودي وثقافة مشتركة.

فأصبحت العبرية مرادفًا للهوية اليهودية تستمر باستمرارها، لذلك تفرض إسرائيل شرط إجادة العبرية للهجرة إليها.

جدير بالذكر أنه رغم دعوات بن يهودا لليهود من أجل الهجرة لتكوين أمة عضوية على أرض فلسطين؛ إلا أنه كان على رأس الداعين لقبول بقاء اليهود في الخارج بشرط أن تجمعهم ثقافة مشتركة مع «الوطن الأم».

ومع أن بن يهودا عانى من المرض والجوع والاضطهاد لكنه نجح في أن يشهد نجاح مساعيه. فأصبحت اللغة العبرية اللغة القومية التي تجمع اليهود من جميع الأنحاء.

 

 

ساسة بوست