رأي ومقالات

الحوار الوطنى ثم ماذا بعد 3


إنتهى بنا القول فى ما سبق إالى تأكيد أنه دون إغتنام سانحة التوافق فى الحوار الوطنى لإحداث إصلاح تاريخى فى النظام السياسى بأسره فإن الأمر سينتهى إلى توافق آنى سرعان ما يتبدد. فآفة العلاقات السياسية التى يطيح إضطرابها بالإستقرار بالبلاد هى فوضى النظام السياسى وألتباس وأرتباك علاقاته ونظمه. وإصلاح النظام السياسى يُوجب إصلاح النظام الحزبى وإصلاح المؤسسات والنظم السياسية ، مثل مؤسسات المجتمع المدنى المجاورة للعمل السياسى وإصلاح النظام الإعلامى وإحكام ضوابطه ونظمه. بيد أن إصلاح العلاقات الحزبية داخل النظام السياسى وأنشاء مرجعية قانونية لضبطها هو أساس الإصلاح السياسى ولن يتحقق ذلك ما لم تنتظم روح الاصلاح كل الأحزاب السودانية صغيرها وكبيرها، لتتضح قواعد الأداء والممارسة داخل الأحزاب ، ولا أحب أن أقول قواعد اللعب النظيف تمثلاً بالقواعد المنظمة للأداء والممارسة الرياضية والآداب والروح الرياضية.
أصلاح الأحزاب من الداخل :
وكنا ذكرنا آنفاً أن البطركية السياسية هي بيت الداء في جسد السياسة السودانية . وما لم تقع الثورة داخل الأحزاب جميعاً علي الهيمنة الأبوية المفروضة علي الأجيال الصاعدة في الساحة السياسية فان مطلوبات التجديد السياسي لن تتحقق. ولا بديل للتجديد السياسي إلا الاجترار والتوريث واحتقان الساحة السياسية والتباسها. لذلك فان التماس المعالجات العاجلة قد يُشعر بعض الناس بالتحسن أو يُشعر كل الناس لبعض الوقت بالتحسن ولكن ما من سبيل إلا أن تبُعث العافية والفاعلية في الجسم السياسي من خلال تجديد سياسي شامل للنظام السياسي في بعده الجزئي المتمثل في كياناته السياسية وأحزابه و منظماته ، وبعده الكلي المتمثل في الأعراف والدستور الناظم لقوانينه ونظمه وأطره. والإصلاح والتجديد الذي نقصده ونريده ليس هو الإصلاح والتجديد الموسمى الذى هو محاولة إستدراك البوار التام ، بل هو التجديد المشابه للطرائق العضوية في الصيانة المستمرة للأجسام . والاستبدال التدريجي للخلايا والمكونات . والتغذية المستمرة بالدماء الجديدة النقية التي تبعث القوة والفاعلية ، وتحرك الطاقات وتدفع النشاط العام للأعضاء. وهو تجديد لا يتنكر للقديم فيزيحه ضربة لازب عن مقاليد القيادة . ولا للأفكار السائدة والخبرات المختزنة فيهملها ولا يوليها اعتباراً ولا يُعيرها التفاتاً ، بل هو حالة استمرار وتجدد . ثم تمضى السنن فما يلبث الجديد ان ترتهنه الوقائع ، فيتحول الي خبرة ينُتفع بها ، والي عبرة يُعتبر بأمثولتها المتدبرون. وشتان ما بين مفهوم التجديد ومفهوم التحديث او الحداثة . فالاخير يعني إستحداث أمر لأ أصل له يستند اليه من الواقع الراهن او الماضي الدابر. لذلك فانه من مأثورنا ان كل (محدثة ضلالة) لأن الإحداث ابتعاد عن مألوف الناس ومعروفهم . ولا يصلح أمر الناس الا بائتلاف بينهم وتعارف واتفاق. وبالرجعى للأحزاب السودانية فلكم تردد من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير بين ردهات مقراتها وفي منتدياتها وصحائفها . وأدى ذلك الي انقسامات وتجزؤ وتهرؤ، ولكن ما ان ينفصل جسم عن آخر بدعاوي الإصلاح او التجديد أو التغيير الا ويخرج عليه خارجون جدد بذات الدعاوي ، حتي كاد الناس ان يستئسوا من شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير . فلماذا صار ذلك كذلك؟ ولعل الإجابة تتبدى ببساطة البداهة ، أن التجديد والإصلاح والتغيير لم يستخدم الا كما أستخدم البعض قميص عثمان ، تنازعاً علي الرئاسات والمناصب والمغانم. فالذين خرجوا بدعاوي تأخير عقد المؤتمرات العامة التي يُرجع فيها الي القواعد ما لبثوا ان تناسوا فكرة الرجوع الي القواعد ، حتي ان حزباً مثل الحزب الشيوعي السوداني الذى يزعم أنه حزب الجماهير المناضلة تمر عليه اكثر من اربعين سنة أي بعدما يمضى جيل بأكمله ولا تجرى فيه مراجعة جماهيرية جادة في شؤون الحزب واوضاعه وسياساته بله عن تجديد قياداته الهرمة ومؤسساته البالية . وحزب مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي لا يزال يتحدث عن المؤتمر العام بعد مرور اكثر من حقبة سياسية تعددية وغير تعددية . ولئن تفتت حزب الأمة لأحزاب لايكاد أحد من الناس أن يحصر أو يحصى عددها ، وأنقسم ما يسمى نفسه بالقومى على نفسه الى عدة تيارات ، بعد أن إنقسم قبل ذلك إلى عدة أحزاب حتى أنه إحتاج إلى لافتة القومية يرفعها ليميزه الناس عن أحزاب الأمة الأخرى (كيف لا يكون حزب الأمة بإسرها قوميا فيحتاج إلى إضافة مفردة القومى )ومثلما يوجد فى حزب الأمة تيارات، تيار الأمانة والتيار العام وتيار الأمين السابق و الأمين الأسبق ، فان في حزب السيد الميرغني تقسم هو الآخر إلى تيارات هى تيار الختميين من أولياء آل البيت وتيار الختميين مثل أبى سبيب من المعاندين لهم ، وتيار الاتحاديين المواليين والإتحاديين المناجزين. وأما الاحزاب القومية فحدث ولا حرج فكل زمرة اصبحت حزباً ، وكل طائفة مؤانسه ومجالسه صارت حزباً. وتبحث عن الوجوه الجديدة في هذه الاحزاب جميعاً فلا ترى أحداً ، وتبحث عن الاصوات الجديدة فلا تسمع حساً ولا ركزا. وأما المؤتمر الشعبي الذي إعتاد علي أيام الحركة الاسلامية وايام المؤتمر الوطني الموحد علي اجتماعات منتظمة للمؤتمر العام ولمجلس الشوري ، لم تعد تلك العادة المستحسنة عادة راتبة لديه وربما يجديه بعد رزئه فى زعيمه ومؤسسه ، المسارعة فى عقد المؤتمر العام للحزب ، وبخاصة وهو يتجه لخيارات جديدة بعد الحوار الوطنى. كما يجديه الدفع بوجوه قيادية جديدة ، وبإصوات جديدة معبرة عن الحزب . فزعيمه الراحل كان داعية للتجديد ، وظل يحلم بتحولات كبيرة ليس على صعيد الحزب فحسب ، بل على الصعيد الوطنى عبر مشروعه عن المنظومة الخالفة .
وأما المؤتمر الوطنى فرغم ما أشرنا إليه من مبادرات ذات أهمية على صعيد الحزب وفى البيئة السياسية ، فإن قواعده لم تبلغ مقام الرضا من مسيرة الإصلاح . ولئن كانت وثيقة إصلاح الحزب فيما يُظن كمالاً على مستوى التصورات فإن المرجو أن يراها الأعضاء وذوو الإهتمام عياناً بياناً فى واقع التنزلات. ولن يحدث ذلك مالم تنشىء هيئة الشورى جسما رقابياً وتطلب من قيادة الحزب تحويل الوثيقة إلى مصفوفة تنفيذات يراقب تنزلها إلى الواقع هذا الجسم الشورى الرقابى.وعلى المؤتمر الوطنى أن يدرك أن ربع قرن من الزمان قد إنتقل به من الفتوة إلى الكهولة ، ويوشك أن يلج به إلى الشيخوخة ، وما لم يستعن بخطة جيدة لإستعادة القوة والفتوة من خلال تجديد الأفكار وتمكين الأجيال ، فإنه لن يفلت من سنة الإستبدال فإنك لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
الإصلاح الدستورى:
ومثلما أن الحوار سانحة لإصلاح النظام السياسى الحزبى فإنه فرصة مؤاتية لاصلاح مؤسسات الدولة على الوجه الذى إنتهت إليه غلبة الرأى فى مؤتمر الحوار . وهى توجهات ليست على مبعدة مما كنا قد دعونا إليه منذ سنوات إذ كنا نقول إن أول سمات الدستور الجديد هو فتح الابواب والنوافذ. وتسهيل الولوج والدخول الي النظام السياسي. بحيث يتزايد عدد الناشطين في التشكيلات السياسية والاجهزة التنفيذية الممارسة للسلطة.لإن أقوى ضمانات إستدامة الديموقراطية هى جماهيرية النظام الدستورى ، وتملك نواصيه بواسطة الجمع الغفير من الناس . وقد يقتضي ذلك مراجعة النظام الفيدرالي، ليس لاستحداث مستوي جديد،كما يطالب بذلك دعاة تركيز السلطة من افراد النخبة الطامعه، الذين يدعون لانشاء اقاليم من فوق الولايات ، بل المطلوب هو توسيع قاعدة هرم السلطة. وذلك من خلال اعتماد المستوي المحلي باعتباره مستوي دستوري من مستويات السلطة. بحيث تقسم السلطات الممنوحه للولايات بينها والمحليات التابعة لها، مع تحديد عدد المحليات، وكما ان عدد الولايات محدد بالدستورفيلزم تحديد عددها فى كل ولاية لئلا تخضع لمساومات جهوية وليس هذا الترتيب بدعة في الدساتير. فالدستور السويسري يعطي السلطات الممنوحة للكميون أكبر من السلطات الممنوحة “للكانتون” الولاية ويحدد عدد هذه وتلك. ينبغى أن تزيد السلطات الممنوحة للولاية علي تلك الممنوحة للمستوي المركزي حتي تقتصر سلطات الاخير علي التخطيط والتنسيق والدفاع والعلاقات الخارجية والسلطات المتداخلة بين الولايات.وهذا الترتيب هو التحقيق الامثل للديمقراطية القاعدية. بحيث يتسع الي مدي بعيد عدد المشاركين في العملية السياسية علي المستوي القاعدي. وكذلك يتسع عدد الممسكين بسلطة القرار علي المستوي المحلي. ولا تكون سلطتهم شكلية بل سلطة حقيقية محمية بالدستور. ومدعومة من خلال ترتيب لقسمة الموارد بين المستوي الولائي والمستوي المحلي، وهذا الترتيب يجبر الاحزاب السياسية للاهتمام بالمستوي القاعدي من نشاطها، ذلك ان الاحزاب تنجذب الي حيث تكون السلطة كما ينجذب بعض آكلات اللحوم الي عظمتها. وهذا يعني ان كل قرار يكون موضع انفاذه هو المحلية يتوجب ان يكون مكان اصداره هو المحلية نفسها. وبذلك تمتلك القواعد قرارها وتتحمل مسئولياتها. مما يتيح تنافساً علي النهضة والنمو المتسارع بين المحليات. اما الولايات فيتوجب ان تعطي اهتماماً اكبر لقضايا التنمية الاقتصادية والبشرية. وبخاصة التعليم والتدريب والتشغيل والتوسع في التنمية الزراعية والصناعية، وفتح افاق الاعمال والتجارة الداخلية بين الولايات، والتجارة الخارجية للتصدير بينما تولي الحكومة المركزية اهتمامها للتخطيط الكلي للاقتصاد ولترسيخ البنيات التحتية ولادارة الاقتصاد القومي وللتخطيط للتعليم واعداد الكوادر البشرية. ولإعمار علاقات السودان الخارجية والاضطلاع باعمال السيادة كاملة غير منقوصة. والإصلاح الدستورى عبر إنجاز الدستور الجديد يجب أن يتجه لإصلاح نظام توازن السلطات والصلاحيات وهذا يعنى مراجعة تركيبة السلطة علي المستوي القومي إستئناسا بموجهات المؤتمر المتمثلة فى إستحداث رئاسة لمجلس الوزراء ، أوكما ورد فى التعديلات المودعة لدى الهيئة التشريعية . وبذلك يتحقق الانفتاح وتتسع دائرة المشاركين في اتخاذ القرار. ويُصار به الي ترتيب جديد يوسع من فرص الرقابة علي القرار. وكذك الوضوح والشفافية قبل اعتماد السياسات وبعد اصدارها. إضافة إلى تعزيز قدرة المؤسسات الرقابية علي المساءلة وبناء منظومة كاملة لتعزيز النزاهة علي المستوي القومي. ولاشك ان في العالم تجارب كثيرة يمكن الاستفادة منها في هذا الشان. فالنظام الرئاسي الكامل الذى كان معمولا به قبل التعديلات المقترحة رغم ايجابياته في حماية الدولة من التقلبات كثيرة الحدوث في النظام البرلماني، والتي تحول دون استقرار الحكومات لاعداد سياساتها بله عن انفاذ تلك السياسات. فان من اكبر عيوبه هو تركيز السلطة في ايادي قليلة.. كذلك فان النقص الاكبر في هذا النظام الي جانب ما ذكر آنفاً هو تأخير مساءلة السلطة الي الموسم الانتخابي. فقدرة البرلمان علي مساءلة الحكومة تظل منقوصه الي مدي بعيد طالما لا يمكن للرئيس ان يمثُل امام البرلمان. ولذلك فإن التعديلات تقترح ما يمكن أن يكون الأنموذج المتوسط بين النظامين الرئاسي والبرلماني ، حيث تقسم الصلاحيات بين رئيس ينتخبه الشعب ويكون مساءلاً امام الشعب، وبين رئيس وزراء او وزير اول يختاره الرئيس من الحزب صاحب الاغلبية او الاكثرية في البرلمان، ويكون مساءلاً أمامه وفي البرلمان. وتكون قسمة الصلاحيات بحيث تصير الامورالتخطيطية والتنفيذية وادارة الاقتصاد من شان مجلس الوزراء بينما تكون ادارة العلاقات الخارجية وأمور الدفاع والأمن وأعمال السيادة من شأن رئيس الجمهورية كما إن له الإشراف على جملة الأداء التنفيذى. وبذلك تتسع فرص المساءلة فيما يلي شوؤن الناس عبر خضوع الحكومة للبرلمان. وبذلك يتسع أيضا عدد المشاركين في اتخاذ القرار بتنشيط دور الاحزاب وجعل السلطة شركة بين الرئيس ومجلس الوزراء. بيد ان التوسيع لاتخاذ القرار لا يكفي. فلابد من المزيد من التحسين للأداء الحكومى ، وذلك من خلال بنود في الدستور تحدد صلاحيات الخدمة المدنية، بحيث توفر لها الحماية من التدخلات الحزبية التي لا تحقق المصلحة العامة بقدر تحقيقها لمصالح حزبية. فلابد من التمييز ولا اقول الفصل بين سلطات اشراف الوزير علي عمل الخدمة المدنية لانفاذ سياسته وبين سلطة الوكيل ومن دونه ممن هم في الخدمة المدنية التي مرجعها الي المُكنة العلمية والخبرة الفنية. والحديث الكثير عن اصلاح الخدمة المدنية لابد له ان يُتبع بالعمل لحماية الخدمة المدينة من تسخيرها للاغراض الحزبية او اتخاذها وسيلة في التنافس الحزبي وتحديثها وتطويرها بإعتماد الحكومة الإليكترونية وبالتدريب وبناء القدرات المستمر . فبذلك يرجى أن نتوصل الى النظام الصالح والحكومة الراشدة .

د. أمين حسن عمر