تحقيقات وتقارير

تعتبر إفرازاً طبيعياً للخلاف السياسي القبلية والجهوية بداخليات الجامعات.. عندما تسقط الطلائع


مدير مجمع الوسط: التوزيع لن يكون على أساس قبلي

طالبة بالزعيم الأزهري: غرفتي تمثل نموذجاً لسودان مصغر

طالب بجامعة الخرطوم: ليس من حق الصندوق مصادرة اختياراتنا

تباهت الطالبة بكلية الزراعة بجامعة الزعيم الأزهري ريماز الهادي التي تقطن داخلية الشهيد الزبير محمد صالح ببحري بأن الغرفة التي تتخذها سكناً تمثل نموذجاً مصغراً للسودان، وتعتقد أن من أهم المكاسب التي خرجت بها من دراستها الجامعية – حتى الآن – التعرف على طالبات من مختلف أنحاء البلاد، وعندما تحدثت إلينا قالت إن الحنين الجارف يسوقها لزميلاتها في الغرفة حينما يذهبن إلى ولاياتهن، وإذا كانت ريماز تشعر بالفخر لكونها تقطن مع طالبات من أنحاء مختلفة من أرض النيلين، فإن آخرين يحذرون من سكن طلاب وطالبات الجامعات بالداخليات على أساس إثني وجهوي، ويشددون على ضرورة محاربة هذه الظاهرة التي يؤكدون تفشيها مؤخراً حتى لا تضرب رياحها المدمرة أهم أماكن الاستنارة وإحدى ممسكات الوحدة الوطنية، والسؤال هنا لماذا انتشرت القبلية وسط طلاب وطالبات الداخليات، وكيف يمكن علاجها.

أكثر من أخوات
تعود الطالبة بجامعة الزعيم الأزهري ريماز الهادي، وتشير إلى أن الطالبات اللائي يشاركنها السكن في غرفتها بداخلية الشهيد الزبير ببحري قادمات من مختلف أنحاء البلاد، وتضيف في حديثها لـ(الصيحة): من غير ميعاد ودون سابق معرفة، فقد وجدنا أنفسنا نتقاسم السكن في السنة الأولى بالجامعة، وفي الأيام الأولى كان الحنين يسوق كل واحدة منا إلى الأهل ومرتع الصبا فشعرنا بغربة تعتري كل طالبة جامعية في أيامها الأولى، بيد أن هذا الإحساس سرعان ما تبدد بعد أن تعرفنا على بعضنا، وفي أقل من أسبوعين انزاحت كل حواجز البدايات وحدث اندماج أحسبه رائعاً، ومعي بالغرفة حليمة من حلفا الجديدة، يسرا من مدينة ربك، سلمى من ولاية الجزيرة، نادرة من الخرطوم ونعيمة وأفراح من أم كدادة، وبكل صدق لم يسبق أن تحدثنا عن القبائل، فكل حوارنا يدور عن المدن، فكل واحدة منا تبدو فخورة بمدينتها ومنطقتها، وتلفت إلى أنهن تبادلن الزيارات الاجتماعية وباتت العلاقة بينهن أكثر عمقاً بل اعتبرتها أسرية، وتبدو ريماز في غاية السعادة بصديقاتها.

سعاد طمبل وأيام في الذاكرة
حينما طلبنا من خريجة جامعة السودان منى علي عبد الرحمن الجنيد وهي من مدينة سنار أن تحكي لنا فترتها بداخلية سعاد طمبل، تغيرت ملامح وجهها وبدا عليها الانشراح بل واعترتها سعادة عبرت عنها بقولها إن تلك أيام ستظل محفورة في الذاكرة، وذلك لأنها من أخصب الفترات التي يمر بها الإنسان، وتعتبر المرحلة الجامعية بكل تقاطعاتها الفترة التي تتشكل فيها الشخصية ووعي الطالب، وقالت إنها اتخذت داخلية سعاد طمبل مستقراً طوال أربعة أعوام إلى أن تخرجت في جامعة السودان قبل سنوات، وتلفت إلى أنهن كن ينتظرن بداية العام الدراسي بفارغ الصبر ليس للذهاب إلى قاعات الدرس ولكن للالتقاء في الداخلية، وأضافت: “كنا أيضاً ننتظر نهاية اليوم الدراسي على أحر من الجمر، وذلك للتوجه صوب داخلية سعاد طمبل حيث نلتقي في غرفتنا ونتجاذب أطراف الحديث في مختلف الموضوعات، وتقول إنها تقاسمت الغرفة مع طالبات من مختلف أنحاء السودان، منها رندا وثويبة وأسيلات من الجزيرة وسارة من شندي وصفية من كسلا وعبير وغادة من عطبرة وإيناس من الأبيض، وغيرهن من طالبات، وتؤكد القادمة من مدينة سنار أن الداخليات هي البوتقة التي تنصهر فيها كل الثقافات والقوميات، وتنفي عدم بروز القبلية طوال فترة وجودهن بالداخلية وتتمنى أن تظل المجتمعات الجامعية في معزل عن رياح القبلية والجهوية لأنها تضم مستقبل البلاد.

رياح عاتية
تلك كانت نماذج مشرقة، ولكن على الرغم من أن معظم الداخليات بالخرطوم تشكل سوداناً مصغراً إلا أن السنوات الأخيرة أطلت القبلية برأسها. ويقول موظف بصندوق رعاية الطلاب إن هذه الظاهرة بدأت في تنمو بشكل واضح قبل عشر سنوات، تمثلت في لجوء طلاب ينحدرون من منطقة واحدة أو قبيلة واحدة في غرفة مشتركة وعدم تفضيل استضافة من لا يمت إليهم بصلة قربى إثنية وجغرافية، وقال بعد أن ـ فضل حجب اسمه لحساسية الأمر كما يشير ـ إنهم بوصفهم مشرفين على الداخليات نبهوا كثيراً إلى الظاهرة وطالبوا بحسمها خاصة في داخلية البركس، غير أنه يعتقد بأن التحرك من قبل إدارة الصندوق لم يكن وفقاً للسرعة المطلوبة أو أنها رأت عدم التدخل ربما لاعتبارات ترى أنها موضوعية، ولكن بصفة عامة ـ والحديث للموظف ـ فإن العامين الأخيرين شهدا بروزاً واضحاً للقبلية، وقال إنه لاحظ أن عددًا مقدراً من الطلاب يفضلون السكن في غرفة واحدة ودائماً ما تجمع بينهم روابط قبلية وجهوية، وزاد: خطورة هذه الظاهرة تتمثل في أن الطالب الجامعي في هذه الفترة الحساسة والهامة من عمره يفترض أن يتواصل مع الآخر من بني جلدته ووطنه حتى يكتسب مهارة خلق العلاقات الاجتماعية بالإضافة إلى اكتساب ثقافات مختلفة، والتعرف على مناطق البلاد المختلفة، ويلفت إلى أنه وبخلاف شيوع ثقافة السكن على أساس جهوي وقبلي فإن التواصل بين مثل هؤلاء الطلاب والآخرين يكون دائماً محدوداً، ويبدو كأنه لا يوجد رابط بينهم، ويعتقد أن ما تشهده الساحة السياسة من احتقان وتفشٍّ للقبلية ألقى بظلاله السالبة على الداخليات التي رأى أن المنطق يحتم على الجميع إبعادها عن كل ما من شأنه التأثير سلباً على العلاقات بين الطلاب الذين يؤكد بأنهم أمل الأمة في المستقبل، ولابد أن يتدثروا في هذه المرحلة العمرية بروح القومية وينبذون العصبية القبلية والجهوية.

مواكبة الواقع
حديث الموظف بصندوق رعاية الطلاب كشف عن واقع مُعاش بالداخليات طوال السنوات الماضية، ولكن هل تم اتخاذ إجراءات للحد من تفشي القبلية في الداخليات من قبل صندوق رعاية الطلاب أم إن الأوضاع ستمضي على ما هي عليه، تأتي الإجابة على لسان مدير مجمع داخليات الوسط بالخرطوم، شوقي عبد الحميد عبد الوهاب، الذي يؤكد أن صندوق رعاية الطلاب اتخذ عدداً من التدابير للحد من تفشي القبلية والجهوية، وبدأ في تطبيقها هذا العام، ويمضي في حديثه لـ(الصيحة) مؤكدًا أن التوزيع لداخليات الوسط شهد تغييراً كاملاً هذا العام في السياسة المتبعة، وأردف: فيما مضى كان الطلاب يأتون وفقاً لسعة الغرفة ويطلبون السكن مجتمعين، ولم نكن ننظر إلى خلفياتهم القبلية والجهوية والسياسية فقد كان المبدأ توفير الأجواء النفسية الجيدة للطالب وترك حرية الاختيار في السكن له.

سياسة واقعية ومطلوبة
رغم أن الطالبة بجامعة الخرطوم آمنة علي عبد الكريم التي تقطن داخلية الزهراء تشترك مع عدد من الطالبات القادمات من مختلف أنحاء البلاد، إلا أنها وفي حديثها لـ(الصيحة) ترى ضرورة منع سكن الطلابات والطلاب في الداخليات على أساس عرقي وجهوي، وتعتقد أن من أهم الدروس التي يجب على الطالب الجامعي تعلمها في هذه المرحلة العمرية هي انفتاحه على إخوته في أنحاء البلاد، وتعلم كيفية خلق العلاقات الإنسانية التي تعتبرها من أهم العوامل في تقوية الروابط المجتمعية والوطنية، وتلفت إلى أن السكن على أساس القبيلة والجهة لا يساعد الطالب على تكوين صداقات مع أناس جدد، كما أنه ـ والحديث لآمنة ـ لا يمكن أن يكتسب ثقافات يستفيد منها في مقبل حياته، وتؤكد أنهن في الغرفة قادمات من مختلف أنحاء البلاد ويعشن مثل الأسرة الواحدة ولا يشعرن بوجود فوارق وتباعد، وترى أن أكبر المكاسب التي خرجت بها الإلمام بكافة ثقافات البلاد، وتدعو صندوق رعاية الطلاب للمضي قدمًا في تنفيذ سياسة السكن على أساس الكلية من أجل مصلحة الطلاب.

حق أصيل
غير أن أحمد الطالب بجامعة الخرطوم، فقد عبر عن بالغ امتعاضة للقرار الأخير الذي قضى بتسكين طلاب كل كلية في غرف مشتركة، وقال لـ(الصيحة) إن من حقه اختيار من يراه مناسباً للسكن معه حتى وإن لم يكن يدرسان في كلية واحدة، ورأى أن الصندوق وبقراره هذا سلب حقاً أصيلاً للطالب، معتقداً أن سكن أبناء المنطقة الواحدة في غرفة مشتركة لا يعني بالضرورة عدم التواصل مع الآخرين، لافتاً إلى أنه يفضل أن يسكن مع أبناء منطقته، وذلك للتقارب النفسي والثقافي بينهم، وقال: من ينحدرون من منطقة واحدة يسندون بعضهم في مواجهة الظروف الاقتصادية المتردية، نعم قد يفعل الآخرون ذلك حال السكن معهم، ولكن ليس في مستوى من يشتركون معك في الانتماء إلى جهة محددة، وينفي ترسيخهم للقبلية التي قال إن حكومة الإسلاميين هي من أشاعتها وجعلتها من الثوابت التي ألقت بظلالها السالبة على المجتمع كافة، وإن الطلاب ليسوا استثناءً.

انتماء وطني
بالمقابل، فإن رباح علي إبراهيم التي تقطن بداخلية الزهراء، ترى أن الداخليات يجب أن تحظى باهتمام من الدولة والمجتمع، وذلك لأنها بحسب الطالبة الجامعية، تمثل مرتكزاً أساسياً في تعزيز الانتماء الوطني وإشاعة روح القومية، وتقول في حديث لـ(الصيحة) إن غرف داخلية الزهراء تجسد السودان بمختلف ثقافاته وقومياته، وترى أن البنات لا يملن ناحية السكن على أساس اثني وجهوي وأنهن يفضلن دائماً الاشتراك في الغرفة استناداً على الصداقات التي تنشأ في الأيام الأولى لهن بالجامعة، وتشدد رباح على أهمية الحفاظ على هذه الميزة الإيجابية للسكن بالداخليات وعدم التنازل عنها حتى لا تتفشى القبلية التي تعتبرها الخطر الحقيقي الذي يهدد وحدة الأوطان، وتضيف: “كلنا سودانيون ويجب أن نعيش في كل مكان على هذا الأساس”. وتطالب صندوق رعاية الطلاب بالمضي قدماً في قراره بل عدم الاعتماد عليه فقط في محاربة الجهوية والقبلية بالداخليات والعمل على تنفيذ المزيد من البرامج التي تسهم في التقارب الوجداني أكثر بين أبناء الوطن الواحد.

على أساس التخصص
ويعود مدير مجمع داخليات الوسط بالخرطوم، شوقي عبد الحميد عبد الوهاب مؤكداً أن النظام تم تغييره هذا العام وتقرر أن يخصص المجمع العريق الذي خضع لعمليات تأهيل وتجميل واسعة خلال الفترة الماضية لطلاب جامعة الخرطوم فقط، وقال إن التوزيع على الغرف سيكون بحسب الكليات، وليس على أسس إثنية وجهوية، وقال إن تسكين طلاب كل مستوى وتخصص في غرف مشتركة يساعدهم في رفع المستوى الأكاديمي، مؤكداً عدم وجود تصنيفات سياسية بالداخلية وأنها ليست من ضمن معايير السكن، ولا يمكن أن يقع الصندوق في خطأ مثل هذا.

تحقيق: صديق رمضان
صحيفة الصيحة