تحقيقات وتقارير

بعضهم ساند العصيان المدني بصورة جهيرة السلفيون والمؤتمر الوطني.. مناصحة أم حالة طلاق؟


الرباط الذي جمع بين المؤتمر الوطني وغالبية التيارات السلفية يبدو وثيقاً جداً، إذ أن الطرفين تربطهما علاقة متينة منذ أزمنة بعيدة، وفي هذا فقد عرف عن جماعة أنصار السنة، وهي الحاضنة التقليدية للسلفيين، دعمها المتواصل لنظام الإنقاذ القائم على فكرة الإسلام السياسي. ويلاحظ أن التوادد القائم بين المؤتمر الوطني والتيارات السلفية، يعود إلى ما يسمونه بـ”العدو المشترك” لكليهما والمتمثل في العلمانية والليبرالية.
غير أن رمال السياسة المتحركة وقاعدتها الذهبية التي تؤكد عدم وجود صديق أو عدو دائم، تشي بأن ما جمع بين مجموعات سلفية والمؤتمر الوطني يمضي كل يوم في ضعف، فبعض من داعمي النظام من السلفيين، غشيت مواقفهم الراكزة المساندة له متغيرات كثيرة، فحينما يؤيد رجل مثل الدكتور عبد الحي يوسف إضراب الأطباء ويعتبر أنه ليس خروجاً على الحاكم، فهذا أمر لافت للنظر، وحينما يؤيد رجل مثل الدكتور محمد عبد الكريم العصيان المدني الذي تم تنفيذه غضون الأيام الفائتة، فذلك أمر يستدعي التساؤل: هل هذا يعني فض التحالف غير المكتوب بين المؤتمر الوطني وبين بعض التيارات السلفية، أم هي حالة جهر بالرأي ومناصحة من أئمة ودعاة للحاكم؟.
عبد الحي يوسف مع الأطباء
قد تبدو ثورة الأئمة والدعاة ضد ما يعتبرونه سياسات خاطئة وتجاوزات ارتكبها المؤتمر الوطني الحزب الحاكم غير خافية، فمساجد الخرطوم التي كان يتحفظ أو فلنقل يتحاشى خطباؤها توجيه سهام نقدهم مباشرة نحو الحزب الحاكم في خطبة الجمعة لم تعد كذلك، فكبار الأئمة والدعاة باتوا ينتقدون من منابرهم نظام الإسلاميين ويؤكدون تفشي الفساد والظلم، غير أن تغييراً لافتاً ميز خطاب عدد منهم خلال النصف الثاني من هذا العام، فالدكتور الشيخ عبد الحي يوسف الذي ظل مسجده بجبرة قبلة ووجهة مفضلة للمصلين يوم الجمعة للاستماع إلى علمه الغزير، فإن مواقفه الواضحة خلال العامين الماضيين ضد نظام الحكم لفتت إليه الأنظار، ليمضي بعيدًا في رؤاه المناهضة لسياسة النظام الإسلامي حينما أعلن أخيراً تأييده لإضراب الأطباء في بيان أخذ حظاً وافراً من الذيوع ولاقى هوى من قبل معارضي النظام الذين اعتبروا شهادة الشيخ عبد الحي لما يمثله من رمزية دينية للسلفية دليلاً قاطعاً على حدوث تباعد بين الطرفين، فالشيخ ورغم أنه وجه في بيانه نداءً إلى الأطباء المضربين وقتها بأن ينفسوا عن كرب المكروبين من المرضى، إلا أنه أكد على عدالة ومشروعية مطالبهم، ووصف الأطباء السودانيين بمتانة العلم ودماثة الخلق متى ما وجدوا الظروف المناسبة والأجواء المهيأة، وقد شهدت لهم بذلك بلاد العرب والعجم.
ومضى في بيانه لافتاً إلى أن الأطباء اجتهدوا في إيصال ظلاماتهم إلى من بأيديهم الأمر، غير أن واقعهم ـ حسب بيان الشيخ عبد الحي يوسف ـ لم يتغير، وقال إنهم ونتيجة لذلك لجأوا إلى الإضراب، وأضاف: الإضراب بمعنى الامتناع عن العمل ليس من الخروج في شيء، لأن بعض الإخوة قالوا هذا خروج على الحاكم، بل هذه وسيلة لإبلاغ الظلامة وللوسائل حكم المقاصد، وجواز الإضراب مقيد بأن لا يترتب عليه إزهاق الأرواح ولا إتلاف الأنفس ولا التعدي على الممتلكات والمنشآت خاصة كانت أو عامة وقد علمنا من كلام الأطباء الموثوقين – والحديث ليوسف – أنهم متفقون على العمل في أقسام الطوارئ.
محمد عبد الكريم على الخط
وقبل أن يجف المداد الذي كتب به الدكتور عبد الحي يوسف بيانه الداعم لإضراب الأطباء والقاطع بأنه ليس خروجًا على الحاكم، مضى واحد من كبار الأئمة والدعاة بالبلاد، ورمز من السلفية المحسوبين على التيار السروري وهو الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم في اتجاه داعم للعصيان المدني، وأشار الشيخ محمد عبد الكريم في بيانه إلى أن المبرر للعصيان المدني واقعي لا يخفى على كل ذي عينين، وأنه ماثل العضة الاقتصادية الخانقة التي أصابت الناس في معايشهم جراء سوء السياسات الاقتصادية والقرارات غير المدروسة، وأضاف: وفي مقابل ذلك لا يرى الناس ترشيداً في بنود الصرف الحكومي بل ترهلا وانغماساً وترفاً لدى قطاعات معيّنة لا تشعر بمعاناة الناس ولا آلامهم اليومية من مصروفات الغذاء والدواء والكساء، كما لا يرون إزاء ذلك الفساد حسمًا ولا ضرباً بيد من حديد على أيدي الذين شيدوا جبالاً من الثروات والأرصدة في الداخل والخارج مما يعرف كثيراً منه القاصي والداني، ومن ثم فإن هذه الدعوات لها مبرراتها الموضوعية ومطالبها العادلة وعليه، فنحن مع السواد الأعظم من الكادحين والمظلومين، ولعلها تكون جرس إنذار، وناقوس خطر لمراجعة جادة صادقة بعيداً عن صيحات المطبلين من النفعيين الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية.
ورغم التأييد الواضح للدكتور محمد عبد الكريم للعصيان المدني، إلا أنه لم ينس عدواً جمع السلفيين بالمؤتمر الوطني، وذلك حينما حذر من الذين أطلق عليهم “العرمانيون”.
تيار من تيارات
إذن ذلك ما جاء في موقف الشيخين الدكتور عبد الحي يوسف والدكتور محمد عبد الكريم اللذين يصنفان ضمن السلفية السرورية، وهي بحسب مختصين في شؤون الجماعات الإسلامية تيار سلفي جديد تنسب إلى الداعية السوري سرور زين العابدين الذي فارق الفانية الشهر الماضي ـ ويشيرون إلى أن علاقة هذا التيار بدأت مع المؤتمر الوطني منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، موضحين أن عدداً من قادة التيار السروري حلت في الخرطوم إثر إبعادهم من دول الخليج بعد حرب الخليج الثانية، وأشهرهم الشيوخ: عبد الحي يوسف، وعلاء الدين الزاكي، ومحمد عبد الكريم، وقد بدأت العلاقة جيدة بين المؤتمر الوطني وتيار السرورية الناشئ في السودان آنذاك بسبب موقف الطرفين من حرب الخليج ويتمثل في معارضة الوجود الغربي على أرض الجزيرة العربية، إلا أن العلاقات بحسب خبراء في شأن الجماعات الإسلامية، سرعان ما ساءت بسبب اتهام المؤتمر الوطني لبعض السروريين بدعم بعض المجموعات الجهادية المسلحة التي حلّ قادتها بدورهم في الخرطوم أيام المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي وأحلام الراحل الدكتور الترابي برعاية كل الحركات المعارضة لبلادها من الإسلاميين، وأنه إثر هذه الجفوة بين الطرفين قامت الحكومة باعتقال الشيخ محمد عبد الكريم لفترة تطاولت إلى قرابة العامين دون محاكمة، وقامت بمصادرة جزء من كتبه، وتم إبعاده من المسجد الذي كان يتولى إمامته بالكلاكلة؛ حيث حلّ بعدها بالجريف غرب وبنى مجمعه الحالي الذي يناوش من خلاله الحكومة أحياناً.
وتراوحت العلاقة بين السروريين ونظام الإنقاذ مؤخرًا بين الشد والجذب مع حالات من الهدوء المشوب بالحذر، إلى أن خرج الشيخ محمد عبد الكريم ببيانه الأخير الذي يعتبره بعض المراقبين بمثابة إنهاء الهدنة بين النظام والسروريين.
مفارقة
الراجح أن تياراً بارزاً وسط السلفية بالسودان قد تباعدت خطوط التلاقي بينه وبين المؤتمر الوطني، ويمكن قراءة هذا من خلال تأييد الشيخ عبد الحي يوسف لإضراب الأطباء والدكتور محمد عبد الكريم للعصيان المدني.
غير أن للسلفية بالسودان تيارات أخرى لم ترفع صوتها حتى الآن ضد النظام الحاكم، ولم توجه نحوه سهام نقدها، وأبرز هذه التيارات مجموعة أنصار السنة المحمدية التي تشارك – بأحد أذرعها – في السلطة والتي آثرت الصمت باعتبارها أحد حلفاء المؤتمر الوطني في هذه المرحلة، ولم يسبق لها أن خرجت عن خطه.
وللسلفية بالسودان تيارات أخرى لا تتعارك مع النظام منها مجموعة أنصار السنة المركز العام التي يقودها الدكتور إسماعيل عثمان، ومجموعة شيخ أبوزيد التي يقودها حالياً الدكتور عبد الكريم محمد عبد الكريم وجمعية الكتاب والسنة التي يرأسها الشيخ عثمان الحبوب، ومجموعة “السلفيون” الذين نشأ تيارهم في بداية تسعينات القرن الماضي بمسجد المسرة ببحري، ويعتبرون الإمارة بدعة، لذا فليس لهم زعيم معروف، وأخيراً السرورية وهي التيار السلفي الذي جهر بمعارضته لسياسات الإنقاذ مؤخراً، ولا سيما مع العصيان المدني، أضف إلى ذلك التيار السلفي الجهادي الذي يقوم بتكفير الحكام، والذي يقوده الشيخ مساعد السديرة والشيخ بشير نصر وهؤلاء لهم مواقف مصادمة مع الحكومة، وكثيرًا ما زاروا محابسها لفترات طويلة.
خير وفتح
الوضع الجديد أعاد السؤال القديم إلى الواجهة، خاصة بعدما جهر بعض شيوخ السلفية برأي مخلف للحاكم، مقروناً مع بعض النقد الحرّاق للحزب الحاكم من على منابر الجمعة، وهو هل هذا الموقف يأتي من باب الطلاق ورفع اليد عن دعم المؤتمر الوطني أم من باب المناصحة؟ هنا يشير أستاذ علم الأديان بجامعة أفريقيا العالمية الدكتور أمين محمد سعيد إلى أن المهمة الأساسية للمنابر الدينية خاصة في المساجد التوجيه والكشف عن قضايا المجتمع بما فيها الفساد وغيره، مؤكدًا أن واجب الدعاة إحاطة العامة علماً بمراكز الخلل والقوة والضعف، وقال إن الحكومة أيضاً من شأنها الاستفادة من النصح الذي يقدمه العلماء لأنه يتيح لها إبعاد أعوان السلطان الفاسدين والاستعانة بأهل الصلاح والكفاءة والخير والبركة، وأردف: أعتقد أن ثورة المنابر الأخيرة رحمة بالأمة وأن الله قيض من يهتم ويتحدث عن قضاياها، وهذا في تقديري خير كبير، ونفى أن يضيق صدر الحكومة ذرعاً بالنقد الموجه من قبل علماء الدين لأنها أحوج ما تكون لوجود من يلقي الضوء على السلبيات، وقال:” لا أتوقع أن يضيق صدر الحاكمين ذرعاً بنقد الأئمة إلا إذا كانوا هم أيضًا من الفاسدين”، وتوقع الدكتور أمين محمد سعيد حال استمرار المنابر بذات قوتها وشفافيتها وعدم الخوف في الحق لومة لائم أن يتراجع الفساد إلى أدنى مستوياته.
البديل المؤهل
من ناحيته يقرأ الداعية الإسلامي المعروف الشيخ محمد الحسن طنون خطوة الشيخين عبد الحي يوسف ومحمد عبد الكريم من زاوية مشابهة، ويؤكد أن موقفيهما من إضراب الأطباء والعصيان المدني لا يعبران عن مفاصلة بين السلفية والمؤتمر الوطني، ويقطع بعدم تأييد عالم دين للعصيان المدني، وذلك لما يترتب عليه من أضرار في حال الإعلان عنه بدون وجود بديل، ويقول إن الإسلام في هذه الجزئية يوضح أن إبعاد الحاكم لا يمكن حدوثه أو الدعوة له دون وجود بديل مؤهل.
المنافع والمفاسد
حسناً، فكيف تنظر الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة لتأييد تيار بارز وسط السلفية بالسودان للعصيان المدني وإضراب الأطباء، وهل ترى أن هذا أعلان طلاق بين تيار سلفي ونظام الإسلاميين الحاكم، خاصة أن الرابطة على علاقة وثيقة بالدكتور محمد عبد الكريم.
هنا ينفي الأمين العام للرابطة الدكتور الأمين الحاج محمد أحمد بدءاً أن تكون رابطتهم قد أصدرت بيانًا فيما يتعلق بالقضايا السياسية الراهنة، ويلفت في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن ما جهر به تيار من السلفية يمكن قراءته أنه جاء من باب مناصحة الحاكم وليس الطلاق بينهم والحزب الحاكم أو إعلان معارضته، ويؤكد أن كل من تولى أمر المؤمنين فلابد له أن يستمع إلى المناصحة ويأخذ بها، إلا أن الشيخ الأمين يلفت إلى أهمية أن تأتي المناصحة وفقًا للأسلوب المُرضي، مؤكدًا عدم وجود عصيان مدني ومظاهرات وإضراب عن الطعام في الإسلام، غير أنه يؤكد أن الدين نهى عن الخروج على الحاكم عسكرياً، أما الخروج من باب النصيحة يجب أن يراعى فيه القاعدة الفقهية التي تشير إلى أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع ابتعاداً عن الفتنة، مؤكدًا على أن المناصحة ليست خروجاً على الحاكم. ونفى الشيخ الأمين الحاج أن تكون الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة قد أصدرت بياناً في هذا الخصوص، وقال إن البيان المنسوب للرابطة ويتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي لم يصدر عنهم.
وفقاً للدين
ويرى أستاذ العلوم السياسية بعدد من الجامعات السودانية البروفسير صلاح الدين الدومة أن الكثير من الأئمة والدعاة بالبلاد وقعوا في مخالفات واضحة وأخطاء وهم يغضون الطرف عن إخفاقات النظام الحاكم، منوهاً إلى أن عدداً منهم ووفقاً لظروف محددة يعمدون إلى قول الحقيقة والجهر بها من فوق منابرهم، ويؤكد أن الكثير من المواقف والظروف تحتم عليهم ملامسة عصب الحقيقة، ويلفت إلى أن الشيخين محمد عبد الكريم وعبد الحي يوسف سبق لهما تأييد النظام من قبل بأحاديث رأى كثيرون أنها تخالف الشرع، وأنهما في الفترة الأخيرة وحينما وجدا نفسيهما مجبرين على الإدلاء بموقفيهما حيال الكثير من القضايا التي تهم المواطن لم يجدا غير الجهر بالحقيقة المجردة ، معتبراً هذه خطوة جيدة تعزز من مكانتيهما بصفتهما من أبرز الائمة والدعاة بالبلاد، ويرى أن الذي يتبع السنة لا يعادي النظام ولا يؤيده بل يقيس كل موقف وحدث بالكتاب والسنة ثم يتخذ موقفه ويدلي برأيه، مؤكداً أهمية عدم وجود معارضة مطلقة للنظام الحاكم وكذا التأييد للأئمة والدعاة وأن كل شيء يجب أن يتم إرجاعه إلى الكتاب والسنة حتى يكون الحكم نابعاً من الشرع.

الصيحة


تعليق واحد

  1. لا يوجد شيء اسمه السلفية السرورية
    السرورية منهج مستقل يقوم على تكفير الحكام ومن مرجعياته الكبرى سيد قطب
    السلفيون منهجهم معروف في عدم التهييج على الحاكم المسلم بغض النظر عن حزبه وجماعته