الصادق الرزيقي

العقوبات الأمريكية .. الطريق الطويل نحو الإلغاء …!


كان الطريق طويلاً جداً ..وشاقاً وعسيراً نحو رفع العقوبات الأمريكية عن السودان ..كان محفوفاً بالخطر والصبر معاً ..ومليئاً بالأشواك والألغام والمطبات والحفر والمزالق .. في معركة سياسية ودبلوماسية حامية الوطيس بحساب اللعبة الدولية ومقتضياتها وقواعدها ، لن يكون للسودان أي حظ في ربحها وكسبها .. > كما لم يكن مقدراً ولا محسوباً على الإطلاق، أن يصبر السودان والسودانيون كل هذه السنوات الطوال العجاف ويصمدوا أمام أقسى عقوبات أحادية تفرضها عليهم دولة عظمى تهيمن على القرار الدولي وتسيطر على كل مفاصل الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية وهي أكبر قوة عسكرية في التاريخ ، وكانت الإدارات الأمريكية التي طبقت العقوبات في فترتها من إدارة كلنتون الديمقراطية وجورج بوش الابن الجمهورية ثم الإدارة المنصرفة الآن بقيادة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، كانت تظن أن السودان بكل ما يعانيه من مشاكل وأزمات لن يلبث أن ينهار ويسقط إلى القاع ويتلاشى كدولة وكيان سياسي ، وكانت هذه الإدارات تعتقد أن سيف العقوبات وسلاحها البتار يفت في عضد السودان وسيغرق كدولة مأزومة مضرجاً بدماء الاقتصاد قبل أن تقسمه الحروب والصراعات والسياسة

> لكن المحير حقاً لقوى دولية كثيرة وحكومات وأنظمة ومراقبين على مدى العقدين الماضيين كيف استطاعت بلادنا أن تبقى مرفوعة الرأس عزيزة منيعة تضغط على جراحها وتسير في طريقها وتشق دياجير الظلم العالمي والحصار والعقوبات لا تنحني ولا تخنع ولا تخضع ولن تركع .
> فعلت واشنطن كل ما تستطيعه ولم ترفع بلادنا الراية البيضاء ولم تستسلم ، كل ما فعلناه أن السودان تعامل بذكاء نادر ، رغم أثر الفأس الحادة ، لم ييأس أو يبتئس ، واجه وكابد بهامة مرفوعة وبوعي كامل نتيجة لمعرفة دقيقة لقياد البلاد بتناقضات اللعبة الدولية ومتشابكاتها وشائكاتها .
> لم يكن الطريق ممهداً وميسوراً .. كانت معركة ضارية بدأت بصمود نادر وصبر لا حدود له دفع فيه شعب السودان الكثير من الأثمان والتضحيات وأثبت فيه هذا الشعب قدرةً وجلداً لا يتوفران في شعوب الأرض قاطبة . فعندما كانت الدول والأنظمة الأخرى تذعن وترضخ وتلين وترعوي وتستكين للمشيئة الأمريكية، كان السودان كالسيف وحده يواجه مصائره ويقوي عزائمه ولا تقع حباله مع الآخرين ويعتمد على نفسه وقد توقفت عنه الإعانات والمساعدات الدولية والقروض وحُرم حتى من مساعدات الأصدقاء وأُغلقت أمام وجهه الأبواب، وتم التضييق على كل التحويلات المالية حتى الفردية للأشخاص والأسر، ووصل أثر العقوبات الى العظم واللحم الحي، فتوقفت مصانع وتأثرت كل مشروعات البني التحتية كالسكك الحديدية وسودانير والخطوط البحرية والنقل البري وغيرها وصناعة الدواء التي كانت تعتمد على الآلة التكنولوجية الغربية وخاصة الأمريكية، وبات السودان مغضوب عليه غربياً منفور منه دولياً لا يستطيع الكثير من الأشقاء والأصدقاء مد يد العون إليه بسبب غضبة العم سام المضرية .

كيف بدأت القصة ..؟
> لم يكن وليد لحظة رفع العقوبات أو إلغاء الرئيس الأمريكي المنصرف باراك أوباما يوم أمس الجمعة 13يناير 2017 للأمرين التنفيذيين رقم
( 13067 الصادر في 5نوفمبر 1997 ) و ( رقم 13412 الصادر في 17 اكتوبر 2006) التي فرضت بموجبهما عقوبات اقتصاية قاسية جائرة على السودان ومنعت التبادلات التجارية وتوريد البضائع والسلع وحجبت تماماً وأوقفت كافة التحويلات المالية للسودان وفرضت عقوبات صارمة على البنوك والتمويلات التي تتعامل مع المؤسسات السودانية الرسمية والخاصة .

> لم يكن هذا القرار نتاج اتصالات متعجلة او سريعة، فالسعي لرفع العقوبات الأمريكية بدأ من فترة مبكرة، فمعلوم أن العلاقات الدبلوماسية حتى في أسوأ الفترات لم تُقطع بين البلدين وإن ظلت في مستوى منخفض قليلاً ، كانت هناك محاولات واتصالات ولقاءات تطرح فيها قضية العقوبات ويطالب السودان باستمرار أن تلغي وترفع عن كاهله .

> عقب أحداث الحادي من سبتمبر 2001م وما تلاها من الحرب ضد الإرهاب ، بدأت وتيرة المباحثات تعلو من منخفضها إلى مستوى أرفع وفي مجالات محددة ، وبدأت بين أجهزة المخابرات في البلدين حيث كانت الأبواب السياسية والدبلوماسية موصدة، وكان هناك تفاهم محدود للغاية في ملف الإرهاب ، لكنه لم يثمر الثمار المطلوبة بكاملها لكنه فتح الطريق بين الأجهزة المعنية بتقديم المعلومات ، ولم تكن الإدارة الجمهورية آنئذ التي تعيش لوثة وجنون الحرب ضد الإرهاب تستطيع السماع والاستيعاب وكانت تقديرات السياسة مختلفة يومئذ ، لكن تلك الاتصالات وضعت القضية السودانية برمتها في منأى من التعامل العنيف لإدارة بوش الابن وهو يعوي من ضربات الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق .

> وعندما بدأت مفاوضات نيفاشا مع الحركة الشعبية لحل قضية جنوب السودان، أتيحت فرص للتحاور مع الجانب الأمريكي ، وكانت هناك وعود ضئيلة ثم توسعت بشكل مضطرب تظللها سياسة (العصا والجزرة) واشتراطات توقيع السلام ، كانت تخبو وتشتعل حتى تم التوقيع على الاتفاقية لكن تلك الوعود تبخرت ، ثم تجددت بعض الوعود عقب انطلاق مفاوضات أبوجا لحل قضية دارفور، وربطت رفع العقوبات أو تخفيفها بالتوقيع على الاتفاق. ولما تم ذلك، نكصت الإدارة الجمهوية في البيت الأبيض ونكثت بوعدها ، وطيلة الفترة الانتقالية لتنفيذ اتفاقية نيفاشا ومشكلاتها كانت الوعود قائمة وعندما جاء الاستفتاء على مصير جنوب السودان كانت هناك أيضاً توجهات حقيقية في هذا الاتجاه .

> مع مجيء حكومة ديمقراطية وجلس الرئيس الأمريكي باراك أوباما وعيَّن مبعوثه للسودان الجنرال سكوت غرايشن ، بدأت محاولات جادة في ذلك الوقت ووضعت خارطة طريق لأول مرة وضعها من الجانب السوداني د. غازي صلاح الدين وكان مستشاراً للرئيس يومها ، وتمت خطوات جيدة وتفاهمات وصلت لأول مرة مكتب متابعة تنفيذ العقوبات ( أوفاك ) لكن انتكست تلك المحاولة وتراجعت بسبب استقالة سكوت تحت ضغوط المجموعات المعادية للسودان .
> ظلت الاتصالات مستمرة في مستوياتها المختلفة والشروط الأمريكية الثابتة شاخصة أمام الحكومة السودانية، لكن لا يوجد أي تقدم حقيقي وكانت الإدارة الأمريكية الحالية تنظر للأوضاع في السودان نظرة متشائمة خاصة مع تنامي الصراع في دارفور ثم في المنطقتين ( جنوب كردفان والنيل الأزرق ) بعد انفصال جنوب السودان ، ووضعت الملفات المعلومة أمام الحكومة السودانية للتعامل معها وهي وقف الحرب في دارفور والمنطقتين وملف حقوق الإنسان والإرهاب والوضع الإنساني وعمل المنظمات التي تقدم هذا الدعم . .

> بعد انفصال الجنوب وما طرأ على الساحة العربية من تغييرات عاصفة صنعتها ثورات الربيع العربي ثم الارتداد العكسي للثورات وانهيارات لدول في المنطقة خاصة في ليبيا والعراق وسوريا واليمن والصراع في دولة جنوب السودان وإفريقيا الوسطى، بدأت الإدارة الأمريكية تنظر الى السودان نظرة مختلفة من أهم ما فيها أنها احتارت في كون السودان بكل أزماته وصراعاته بقي صامداً مجتنباً مصير غيره من البلدان التي ذابت كما الجليد تحت نار صراعاتها وثوراتها وخلافاتها واستمعت واشنطن لآراء وأفكار ونصائح من جهات إقليمية ودولية مهدت لها الطريق للتعامل مع السودان والتحاور معه وكانت هناك محاولات يقوم بها وزير الخارجية السابق علي كرتي وجهات أخرى في الدولة لم تفضِ الى نتيجة.. لكن كانت رغبة واشنطن في مواصلة الاتصالات والاستماع تقوي وتتزايد

> بدأت واشنطن بالحزب الحاكم المؤتمر الوطني ، قدمت دعوة في 2013 لنائب رئيس الحزب يومها د.نافع علي نافع لزيارة واشنطن ، لكن تلك الزيارة لم تتم ، لأن المؤتمر الوطني كان مشغولاً في تلك الأثناء بالتغييرات التي جرت فيها وخروج كل الحرس القديم من السلطة ، فجددت الدعوة لنائب رئيس الحزب الجديد بروفيسور إبراهيم غندور ، الذي زار واشنطن عقب إعلان رئيس الجمهورية مبادرة الحوار الوطني وطرح مشروع الإصلاح السياسي ، وزار غندور واشنطن والتقى ببعض كبار المسؤولين وطُرحت فكرة الحوار السوداني الأمريكي وتبلورت وحددت للحوار المرتقب خمسة مسارات وخارطة طريق مثل تلك التي تمت بين د.غازي وغرايشين ، لكن هذه المرحلة كانت الرؤية أوسع والجهات التي اقترحت لتكون هي عناصر الحوار كانت أكبر .

> استمر الحوار بطيئاً جداً ، تخللته لقاءات في وزارة الخزانة في أكتوبر 2014 شارك فيه وزير المالية ومحافظ البنك المركزي من الجانب السوداني ونائب وزير الخزانة الأمريكي ولجنة من أوفاك ، بينما كانت لقاءات أخرى على مستوى جهازي المخابرات تجري حواراً أيضاً يصب في ذات الاتجاه.
> وهنا لابد من الإشارة الى أن عاملاً جديداً قد طرأ في علاقات السودان العربية ودخول الخرطوم ضمن التحالف العربي الإسلامي في الحرب ضد الإرهاب وعاصفة الحزم وحرب اليمن ومواقف السودان مما يجري في الساحة العربية ، أوجد هذا التحول مناخاً أفضل للحوار السوداني الأمريكي . ولعبت هنا الدبلوماسية الرئاسية دوراً مهماً في توضيح الصورة لبعض الأشقاء الذين ساهموا في دفع الحوار الى الأمام .

> في أكتوبر 2015 وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، تم ترتيب لقاء مهم للغاية بين وزير الخارجية بروفيسور إبراهيم غندور وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي ، كان هذا اللقاء هو القاطرة الحقيقية التي قادت الى نجاح الحوار السوداني الأمريكي ، لأنها وضعت فيه بشكل محدد الالتزامات بخارطة الطريق والقيودات الزمنية لبدء التفيذ وكيفية تطبيق متزامن للجوانب الإجرائية للخارطة ، وعلى إثر ذلك تكونت خمس لجان في المسارات الخمس ولجنة عليا برئاسة البروف غندور وتضم اللجنة الجهات ذات الصلة والمعنية بهذا الملف ، ويومها كان كاتب هذه السطور في نيويورك وسجل للتاريخ كلمة صارت فصلاً في هذا الحوار للبروف غندور عندما قال في حوار أجريته معه مباشرة عقب اللقاء:

« إذا لم ترفع العقوبات الأمريكية في عهد أوباما وكيري فإنها لن ترفع أبداً.”
يبدو أن نبوءة السيد غندور قد تحققت، ونجح الحوار الشاق والجهود التي بُذلت من كل الأطراف وفي مقدمتها الدبلوماسية الرئاسية حيث كان رئيس الجمهورية يشرف بشكل دقيق ويتابع عن كثب هذا الملف ويقوم بتوزيع الأدوار وتنويع الاتصالات ، حتى صبت جميعها في الاتجاه المطلوب والمرغوب وتحققت النتيجة التي سيكون لها ما بعدها..

الصادق الرزيقي – أما قبل
صحيفة الإنتباهة


تعليق واحد

  1. عندما يتحول القلم الى طار أو دف !!!
    كفى تطبيلا” يا هذا و أحترم منصبك بتمثيلك لصحفيي السودان و الا فأبحث لك عن مهنة أخرى .