رأي ومقالات

أمريكا.. دنا وفاقها


لم يكن خافيا، او عصيّا على الفهم، وجود مسارات متعددة لحوار سوداني امريكي خلال العامين الماضيين. ولكن الذين تنبهوا للتسارع في وتيرة ذلك الحوار خلال العام الماضي تحديدا كانوا قلة. ومع اضطراد الوتيرة بدأت مؤشرات التقارب السوداني الامريكي تتبلور وتأخذ شكلها الجدي، فتناثر اللغط وتكاثر في الدوائر الدبلوماسية والصحافية بشأن خارطة طريق جرى الاتفاق عليها بين ممثلي الحكومتين. ولكن اطراف ذلك الاتفاق تحفظت وتكتمت على مضمونات الخريطة وهويتها.
خلال ذات الفترة الزمنية تكاثفت زيارات الوفود الامريكية للخرطوم في العلن وفي السر. من ذلك رحلات متعددة للمبعوث الخاص للسلام في السودان دونالد بوث ورحلات لأعضاء سابقين في الكونغرس. كذلك هبط مطار الخرطوم وفد ضم عددا من الدبلوماسيين الذين عملوا في السودان في أزمان مختلفة وعلى رأس هؤلاء السفير السابق تيموثي كارني، آخر سفير امريكي كامل قدم اوراق اعتماده في القصر الجمهوري، والسفيرة ماري ييتس التي كانت على رأس السفارة الامريكية في الخرطوم حتى العام 2011. وبدا واضحا ان هذه الوفود تقود حراكا واسعا لاعادة ترتيب العلاقات بين البلدين.
(2)
كذلك كانت هناك صحف أمريكية تنقر على أوتار أنباء قديمة، كأنها تتعمد ان تعيدها الى الأذهان، فتكرر الاشارة الى ملفات التعاون الأمني والاستخباري الذي ظل قائما بين البلدين لسنوات طوال. ثم الى تقارير وزارة الخارجية الامريكية السنوية في مجال استعراض الجهود الدولية لمكافحة الارهاب، والتي ظلت تؤكد وتثمّن تعاون السودان الوثيق لأربعة عشر عاما متتالية.
في قلب هذه الأجواء بدأت ظاهرة البيانات الامريكية غير المعهودة التي تشيد بحكومة السودان وتستخدم لغة ايجابية عالية في وصف خطوات او سياسات معينة. ومن ذلك البيان الامريكي في تقريظ الحكومة عند توقيعها خارطة الطريق التي اقترحتها الوساطة الافريقية. ثم بيان الاشادة باعلان الحكومة قرار وقف اطلاق النار من جانبها، الذي ألحقته ببيان آخر يعبر عن ارتياح واشنطن الشديد لتعاون السودان المخلص في مضمار مكافحة الارهاب، دون ان تكون هناك مناسبة او سبب ظاهري مفهوم لاصدار مثل ذلك البيان. وكان واضحا ان الجهات التي تصنع وتصدر هذه البيانات انما تتوجه بإشاراتها الى الداخل الامريكي لا المحيط السوداني، وذلك بغرض تحييد مراكز معينة مشاركة في اتخاذ القرار، تخصيصاً شركاء وزارة الخارجية في البيت الابيض او الكونغرس.
(3)
ولكن البيان الامريكي الحاسم الذي فاجأ الرهط، من غير المتنبهين للخطى المتسارعة، فكان ذلك الذي حذرت فيه واشنطن حكومة سلفا كير من إيواء عناصر المعارضة السودانية من متمردي الحركات الدارفورية وطالبتها بتجريد هذه الفئات من اسلحتها وطردها من اراضي الجنوب او ايداعها بإشراف الامم المتحدة في معسكرات اللجوء.
وفي ذروة هذه المواقف المتلاحقة صدر مقال المبعوث دونالد بوث الذي نكل فيه بالمتمرد عبد الواحد محمد نور، رئيس جبهة تحرير السودان، تنكيلا شديدا، ونعته بأنه المعيق الاول للسلام في دارفور.
وتواصل الحراك الأمريكي فانعقد في سبتمبر الماضي بمدينة نيويورك مؤتمر للمصارف. ثم تبعه مؤتمر آخر في لندن الشهر الماضي لشرح مصاعب نظام التراخيص الممنوحة في ظل نظام المقاطعة. وكان المؤتمران بمبادرة وتنظيم وتمويل من وزارتي الخارجية والخزانة الامريكية، وتبلورت فيها خطة رفع العقوبات. وعندما عاد محافظ بنك السودان السابق الذي حضر المؤتمرين الى الخرطوم ولمّح الى اقتراب ساعة القرار الامريكي انطلقت جموع المعارضين ورسامي الكاريكاتير تسخر منه ومن (احلام زلوط)!
(4)
بيان وزارة الخارجية الامريكية الذي صدر اول أمس تحدث عن ما أسماه (خطة شاملة). وتتكون هذه الخطة من خمسة عناصر هي: العمليات العسكرية الهجومية للحكومة السودانية، تحسين الأوضاع الإنسانية، إنها دور السودان السالب في جنوبي السودان، محاربة الارهاب، وانهاء التهديد الذي يمثله جيش الرب. وبعد ايراد هذه العناصر الخمسة خلص البيان الى التقويم الامريكي للموقف السوداني فسطر بلغة انجليزية ناصعة:
Since then, Sudan has met our benchmarks and made significant progress toward these goals, as well as new commitments
إذن الولايات المتحدة راضية كل الرضا وعلى قناعة مطلقة بأن حكومتنا السنية (أوفت بالتزاماتها وفقا للمعايير الامريكية، وأحرزت تقدما متميزا نحو تحقيق الاهداف الاخرى) وتنتظر المزيد، كما تقول الترجمة. هذه هي الزبدة بالنسبة للطرف الامريكي. نقطة. سطر جديد!
(4)
عظيم. وأين المعارضة من كل هذا؟ التعاون بين السودان والولايات المتحدة خلال فترة تنفيذ تلك الخطوات كان كبيرا، أكبر بكثير مما ادركته او حتى تصورته قوى المعارضة. بدليل انتفاء الأجواء التصادمية التي كانت سائدة قبيل تلك الفترة بين الخرطوم وواشنطن واستبدالها بتحرك تعمدت الجهتين عدم تسليط الاضواء عليه، تحريا للحكمة الشعبية (داري على شمعتك تقيد).
كان بادياً للعيان ان أجواء الثقة باتت اكثر توافرا، وذلك في مقابل يأس بدا ظاهرا لدى الطرف الامريكي تجاه قوى المعارضة السودانية وفصائلها، فهل ياترى اعترت قوى المعارضة، على الضفة الاخرى، حالة يأس موازي تجاه الموقف الامريكي؟!

أمريكا: دنا وفاقها (2)
(1)
مضت واشنطن قدما في خطتها باتجاه إصحاح العلاقات مع حكومة الخرطوم دون ان تأبه بضجيج العصيان المدني الذي تكالبت عليه وتعلقت بأهدابه تنظيمات المعارضة عند نهايات العام المندحر، والذي انتهى في خواتيم ديسمبر الى لا شئ، فخرجت هذه التنظيمات من سرادقه، يا مولاي كما خلقتني، وقد قبضت الهواء.
الموقف الامريكي له حيثياته غير المعلنة الى جانب الحيثيات المذاعة التي صدع بها المتحدثون الرسميون. ولا يحتاج المرء لعبقرية فائقة ليدرك ان وشنطن خلصت أخيرا الى تسليم مفاتيح القيادة في أمر السودان لأساطين وكالة المخابرات المدنية (سي آي ايه)، ووكالة استخبارات الدفاع (دي آي ايه)، ومحترفي وزارة الخارجية الامريكية، الذين لم يبدلوا تبديلا في مواقفهم الرافضة لنظام العقوبات على توالي الحقب.
(2)
برغم غبار اللغة في البيانات والتصريحات فإن الموقف الامريكي تجاه فتح الأبواب باتجاه التطبيع الكامل مع السودان نهائي وقاطع. حتى الجوانب العسكرية التي ما تزال تحفها القيود والاشتراطات تجري عملياتها التطبيعية على قدم وساق. هل نفاجئ أحدا إذا قلنا بأن الاتفاق قد تم بالفعل على تبادل التمثيل العسكري، وان واشنطن أبلغت الخرطوم رسميا باسم الضابط رفيع المستوى الذي اختارته ملحقا عسكرياً بسفارتها في الخرطوم، واسماء معاونيه الذين يمثلون الوحدات الرئيسية في الجيش الامريكي وأهمها الطيران والبحرية؟
تبادل التمثيل العسكري يعني ضمنيا، وفقا للعرف الامريكي، انفتاح الباب امام التبادل في كافة الشئون العسكرية. الذين لا يصدقون ذلك ولا يرونه، سيتعين عليهم الانتظار حتى اكتمال القمر في الليلة الرابعة عشر.
اغلب القيادات الآتية مع حبيبنا ترامب لا تؤمن اصلا بفلسفة المقاطعة، خلافا لما يردد البعض. وزير الخارجية ريكس تيلارسون في خطاب له مسجل وصف نظام العقوبات بأنه نظام عقيم وغبي لا يصلح في ادارة الشئون الدولية، وطالب باسقاط العقوبات المفروضة على روسيا بعد احتلالها اجزاء من اوكرانيا في العام 2014. أما بيتر فام، احد المرشحين لمنصب مساعد وزير الخارجية للشئون الافريقية، فقد نشرت له مجلة (The Hill) الامريكية مقالا بتاريخ 16 ديسمبر 2015، بعنوان (أزف الوقت لمراجعة العقوبات المفروضة على السودان)، جادل فيه بأن العقوبات لم تحقق هدفها، بل انها أضرت بأهداف السياسة الخارجية الامريكية بأكثر مما اضرت بالسودان.
(3)
هل هناك (تنافس شرير) كما أوحى الحبيبب ضياء الدين بلال؟ أتمنى ألا يكون ذلك صحيحا. وعندي ان الكل قام بدوره. في مقدمة هؤلاء: ربّان الخارجية غندور، وسلفه على كرتي الذي حصدت الدبلوماسية الراهنة بعضا من طيّب غراسه، وكبير البصاصين الفريق عطا مهندس الحوارات والتحالفات الاستخبارية الدولية، ونائبه – ابن ام الطيور البار- الفريق أسامة مختار مدير الملف الامريكي. وهناك من وراء الكواليس الجندي المجهول السفير بواشنطن معاوية عثمان خالد. وإن كان هناك من يمسك بملفات الإسناد الاقليمي السعودي والخليجي فلا بأس وعلى بركة الله. أمر العلاقات الخارجية في عهد ما بعد الغيبوبة كله خير. فقط اعتصموا بآية النجم (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).
(4)
في مؤتمر السودان بمدينة هيرمانسبورغ الألمانية، برعاية الكنيسة الافنجليكانية، منتصف العام 2013، وقف السيد ياسر عرمان متحدثا بلسان الجبهة الثورية ليعلن رفضها أى مسعى لرفع او تخفيف العقوبات على السودان. وطالب هذا الحبيب بالابقاء على العقوبات، بل وتشديدها، كأداة فاعلة لإسقاط النظام. ثم وقف مؤازرا له باسم ذات الكيان ممثل حركة العدل والمساواة. وعرمان لا ينكر بالطبع، فقد صرح اول امس بأنه طلب من المبعوث الامريكي تجميد او تأجيل القرار. ولكن .. ويا للحسرة!
لا أظن ان قوى المعارضة جابهت اوقاتا اكثر بؤسا وشظفا مثل وقتها الماثل، إذ أعرضت عن الحوار فأورثها الله معيشة ضنكا. انحسرت وذوت الدعومات اليهودية المهولة الذي جعلت من قضية متمردي دارفور ذات يوم القضية الاولى في سوح واشنطن، فوجد أهل الحركات انفسهم، على حين غرة، هائمين في شوارع امريكا كما الايتام.
ومن المفارقات انه بينما تقاعس الجن المسلم، فإن الجن اليهودي نهض ليحث لواشنطن على إلغاء نظام المقاطعة بعد تحول السودان عن ايران. وقد بلغ أمر دعم تل أبيب للخرطوم الخافقين ولم يعد سرا. فانظر، أعزك الله، الى اهل البيت وقد كفروا، والى الأبالسة من بنى صهيون وقد غفروا!
كان الفشل المزري للعصيان المدني الذي عولت عليه المعارضة في مسعاها لإسقاط النظام ضربة موجعة، ما لبثت ان رُوّعت بعدها بزلزال رفع العقوبات. ثم ها هو الاتحاد الاوربي يرحب بالقرار ويثمّنه ويدعمه. نسأل الله ان يخفف عن أحبابنا المعارضين وحشة الخذلان الاجنبي وان يصبرهم ويعينهم على تجرع مراراته. وقديما قيل (المتغطي بالأجنبي عريان)!
(5)
لا غرو اذن ان ضربت الخلافات اجتماع القوم في باريس اول أمس، فاستعصى على عليهم الاتفاق على الاجندة، بل انهم اختلفوا حتى على من يترأس الجلسات. اقترح مني اركو مناوي ان يترأسها جبريل ابراهيم، فاعترض ياسر عرمان، وهاج وماج وهدد بالانسحاب. وفي سابقة لا مثيل لها، وفي ظل عدم الاتفاق على شخصية سودانية، تقرر ان ترأس الجلسات جوزفين روزالند سفيرة بريطانيا السابقة في الخرطوم والممثل الخاص للاتحاد الاوربي.
اختلف القوم حول خارطة الطريق، ثم اختلفوا حول اجازة الهيكلة، وتنازعوا ايضا حول المقترح الامريكي المتعلق بالمساعدات الانسانية!
سألت على ماذا اجتمعوا اذن؟ قال القائل: اتفقوا على مطلب موحد توجهوا به الى المبعوث الامريكي. قلت الحمد لله، فما هو المطلب؟ قال: اتفقوا بعد التفاكر العميق على ان يطلبوا من المبعوث ان ينظم لهم رحلة جماعية الى واشنطن لتهنئة الرئيس دونالد ترامب بالفوز!
وسيأتيك بالأخبار من لم تزوّد!

مصطفي عبدالعزيز البطل
السوداني


‫2 تعليقات

  1. يالبطل ماشاء الله انت زول مبدع وكتاب بصورة مزهلة .. تهانينا ليك ومزيدا من التألق.