رأي ومقالات

سراج النعيم يكتب: قصتي مع والد الطفل المريض المزيف الذي طلب فتوي (الموت الرحيم)


لم أشك ولو للحظة واحدة أن الشاب الأسمر المتهم في بلاغ بقسم شرطة (حلة كوكو) قد يكون بأي شكل من الأشكال إنساناً محتالاً خطيراً، المهم إنني جلست معه لأكتب له رسالة شكر يود نشرها عبر صحيفة (المجهر السياسي)، وجاء ذلك اللقاء بتكليف من الأستاذ الصديق مبارك البلال الطيب.

وبما أن المسألة مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالجوانب الإنسانية، لم أتوان ولو لكسر من الثانية للإصغاء لسرده الشيق والمؤثر جداً للقصة، وذلك بعد إطلاعي علي المستندات الطبية المؤكدة أنه صادق في كل كلمة قالها لي، وهي واحدة من الأسباب التي لم تدعني أتخيل أنه يمكن أن يكون محتالاً، يستقل إصابة طفل بحروق وآخر مريض بثقب في القلب وهما لا حول ولا قوة لهما وذلك بغرض جني المال.

وبالرغم من إنني وقفت متأملاً في الكثير من قصص النصب والإحتيال، إلا أن مثل هذه الواقعة الجديدة لم تتبادر لذهني لما فيها من جرأة في الطرح والتناول والذكاء الحاد الذي أدعي في ظله المتهم أنه والد الطفل المريض.

وأكاد أجزم أن المتهم الذي جلست معه لا توحي هيئته غير أنه شاب صادق وأنيق في شكله، وفنان في طريقته المميزة لمخاطبة الآخرين، والناظر إلي ملامحه يتأكد له منذ الوهلة الأولي أنه إنساناً مهذباً وخلوقاً، إلا أنه يمر بإشكالية كبيرة تحتاج إلي من يساعده علي حلها، ولكل هذه العوامل وجدت نفسي متعاطفاً معه، وفي بادئ الأمر أصغيت له شفاهة، ثم أعاد سرد القصة علي مسامعي للمرة الثانية حتي أتمكن من كتابة الشكر.

وعندما جلست إلي المتهم بجوار ست الشاي المثقفة (سامية) لاحظت أنها تعاطفت معه لدرجة أنها دعته لإرتشاف كوب قهوة أو شاي علي حسابها، فما كان منه إلا أن طلب منها كوب ماء، قامت بإحضاره له بنفسها، وبعد إصرار علي دعوتها له للمشروب الساخن، طلب منها (شاي) ارتشف منه قليلاً، ثم وضعه علي (التربيزة) وبدأ في رواية الحكاية بصورة درامية مؤثرة جداً، ولم يكن يقطع سردها، إلا البكاء للموقف الإنساني الذي وقفته معه الأستاذة أم وضاح، والذي أعتبره جزء أصيل من تكوين الشعب السوداني، الذي جبل علي أن ينفعل ويتفاعل مع القضايا الإنسانية والخيرية، وعليه وجدت نفسي مجبراً علي مساعدته في مصيبته، مع إنني كنت علي دراية تامة بأن عمليات النصب والاحتيال تختلف باختلاف المكان والزمان والأشخاص الذين يمارسونه، ولكن المتفق عليه هو أن جرائم النصب والإحتيال هي أنها ضرب من ضروب المكر والخداع والتضليل والتمويه والكذب والنفاق والمراوغة الهادفة لسلب أموال الخيرين بـ(الباطل)، لقد اتجه هذا المحتال مستقلاً ذلك الظرف الإنساني، والذي دائماً ما يؤثر في الإنسان الفقير والغني معاً وكل واحداً منهما يدعمه بما يملك.

من الواضح أن المتهم تعمد أن يغيب الوازع الإنساني، وذلك بتغمص دور معاناة الأب الحقيقي، دون أن يخاف من الله سبحانه وتعالى، لأنه كان كل همه جني مبالغ مالية، متبعاً في ذلك الأهواء الشخصية، التي استطاع بها إيقاع البعض في مصيدته لقمة سهلة، باستقلال الحروق المصاب بها أحد الأطفال، ثم مرض طفل آخر هادفاً من وراء ذلك تحقيق غرضاً دنيئاً يتمثل في جمع المال، وليس مهم لديه المصير الذي يؤول إليه هذا الطفل المريض أو ذاك المهم أنه نجح في اختيار ضحاياه بعناية فائقة جداً، ثم دفعهم جميعاً لأن يساعدوه في الإحتيال، دون أن يشك أي واحداً منهم في سوء نواياه، أي أنه كان يحتال الكل بطيب خاطر، مستعملاً أسلوبه الإحترافي في النصب والاحتيال بأساليب سهلت له الحصول علي المال.

المؤسف حقاً إنني لم أعتقد أن هذا المتهم محتالاً، وأنه يجيد التلون كالحرباء، مستفيداً من إصابة طفل بحروق إدعي أنه شقيقه الأصغر، وأخر مريض بـ(ثقب في القلب) إدعي أنه أبنه للتأثير علي ضحاياه، ومع هذا وذاك تسربل بمستندات طبية تؤكد صدق روايته، وظل هكذا إلي أن طلب فتوي (الموت الرحيم) لابنه الذي احتال به مبالغاً مالية كبيرة، وذلك بعد أن حصل علي الأوراق المؤكدة صدق الحالة الصحية للطفل، وقد دفع بها إلي بعض الجهات المهتمة بالعمل الإنساني، من أجل أن تساعده في علاج صغيره، والذي استفاد من مرضه لجمع المال لصالحه، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلي أبعد بأن طلب فتوي من مجمع الفقه الإسلامي تبيح له (الموت الرحيم) للطفل المريض، الذي سارعت أسرته إلي إتخاذ الإجراءات القانونية لدي قسم شرطة (حلة كوكو)، والتي بموجبها ألقي القبض علي الشاب المتهم بالاحتيال، والذي شغل الرأي العام بالفتوي التي طلبها.

السؤال الذي يفرض نفسه كيف عثر المتهم علي أوراق الطفل المريض الإجابة بحسب ما ذكر الوالد الحقيقي للطفل : إلتقيت بالمتهم في القمسيون الطبي، فإدعي أن له طفلاً يعاني من نفس مرض طفلي، ثم أخذ مني رقم هاتفي، وأصبح يتواصل معي باستمرار متحججاً بأنه يرغب في الإطمئنان على صحة صغيري، وبعد عدة إتصالات أكد لي أن هناك أطباء حضروا من الخارج لإجراء عمليات (ثقب في القلب) داخل السودان، وأنه قد أجرى عمليه لإبنه ونجحت، ثم طلب مني إرسال أوراق ومستندات إبني الطبية للتسجيل له لإجراء العملية، فلم يكن أمامي بداً سوي أن أرسل له الأوراق المتعلقة بمرض طفلي، وبعد فترة إكتشفت أنه قام بإستخدام الأوراق دون علمي، بغرض إستجداء الدعم المالي عبر وسائط التواصل الإجتماعي، وتوزيع كل المستندات علي الجهات الخيرية والمؤسسات لإستقطاب الدعم، إلي جانب تقديم طلب لمجمع الفقه يطلب فيه الموت الرحيم لطفله منتحلاً صفتي، فأنا لم أتقدم بأي طلب للمساعدة، وما زلت أتابع علاج طفلي مع الطبيب إلي جانب إنني قررت أن أجري له العملية قريباً.

وحكي لي الأب المحتال قصة معاناته مع مرض طفله بحرقة بالغة، قائلاً : عندما إكتشفت أن صغيري مريضاً، لم أحتمل أن أشاهده يتألم، مع التأكيد إنني لا أملك المبالغ المالية التي تجعلني أوقف معاناته مع المرض، وعليه فقد واجهتني صعوبات كثيرة في رحلة العلاج، الذي كنت اتحلي في إطاره بالصبر، وهكذا إلي أن سخر الي الله سبحانه وتعالي الإعلامية (أم وضاح) التي وقفت معي في هذه المحنة، والتي لولاها لما كنت وضعت نفسي في هذا الموضع.

ومما ذهب إليه هذا الشاب المحتال، الذي كنت أجهل أنه بهذه الخطورة، وهو يمارس النصب والاحتيال، مما جعلني أكون مطمئناً إلي أنه صادقاً ودون أن يساورني أدنى شك فيه، بدليل أنه استطاع أن يقنع والد الطفل الحقيقي بأن يمده بالأوراق الخاصة بمرض طفله، لكي يضع حداً لمعاناته مع المرض، مستفيداً من فكرة إدعاء أن لديه طفل يعاني من ذات المرض، ولكن كل ذلك كان كذباً، كيف لا وهو الذي لم يكن يأبه بتساقط دموعه المنهمرة علي خديه.

وتبقي جرائم النصب والاحتيال من الجرائم الخطيرة
التي أغلبها مرتبطة بالمجتمع، وبالتالي تحدث هزة وعدم ثقة في الناس، لذا علي الجميع السعي لإيجاد الحلول الداعمة للحد من تفشي الظاهرة وإنتشارها، وهذا الدور التوعوي تلعب فيه أجهزة الإعلام المختلفة دوراً ريادياً من حيث التنوير والتبصير بالخطر المحدق بهم من ضعاف النفوس، والذين أصبحوا يستقلون المرض لاستدرار عطف الداعمين، الذين يجدون أنفسهم ضحايا الإنسانية، نسبة إلي إمتياز المحتالون بالذكاء الحاد، الذي يخططون في إطاره تخطيطاً دقيقاً، بالإضافة إلي أنهم يحسنون التصرف بسرعة البديهة، كما أنهم يتمتعون بالقدرة على الإقناع، وطرح القصص بشكل مؤثر، بحيث أنه لا يدع للإنسان المتلقي مجالاً للشك أو التكذيب.

بقلم
سراج النعيم


‫4 تعليقات

  1. كالعادة يا سراج تلف وتدور وفي النهاية الواحد يلقي نفسو ضيع وقت من غير ما يفهم انت عاوز تقول شنو .
    هسه الزول دا نصاب وللا ضحية ؟؟؟

  2. ابسط شي كان ممكن تتاكد من الشخص بان تطلب منه اثبات شخصية قبل الجلوس معه قبل تضيع وقتك ووقتنا