منوعات

ما الذي يدفعنا لرفض نصائح الآخرين؟


يقول العالمان النفسيان روبرت ناش، ونعومي وينستون، إن أدمغتنا تلجأ لأساليب عديدة بارعة لتفادي سماع ملاحظات الآخرين، لكن هناك طرقا لتفادي الانسياق وراء هذه الحيل الدفاعية النفسية التي تحجب عنا مزايا تلك الملاحظات.

ثمة جانب مثير للفضول في شخصية الإنسان، وكل منا مدفوع بأهداف يسعى لتحقيقها. فمنا من يريد أن يصبح أسرع في الجري، أو أكثر إبداعا، أو يحرز المزيد من الجوائز، ومنا من يريد أن يعالج المزيد من الأمراض، أو يجني المزيد من المال.

لكن عليك أن تراجع نفسك إن أردت أن تساعد شخصا على الاستفادة من طاقاته، سواء بتوجيه ملاحظات حول أدائه وتحديد النقاط التي تحتاج إلى إصلاح، أو بإسداء النصح بكلمات رقيقة تنم عن الخبرة، أو بتوجيه نقد بناء، أو حتى بالتقييم من خلال مصادر متعددة. إذ اتضح أن أغلب الناس لا يفضلون سماع ملاحظات أو تعليقات من الآخرين.

وربما يعزي ذلك جزئيا إلى الاعتداد بالذات. فنحن نريد أن نحقق الأهداف الشخصية التي وضعناها لأنفسنا، ولذا، فإن شعورنا بأننا موضع تقييم قد يمثل تهديدا لكبريائنا، وشعورنا الإيجابي بالتميز عن الآخرين.

وبعد عقود من البحث ووضع النظريات في مجال علم النفس، تبين أن الإنسان يلجأ لحيل بارعة للحفاظ على رباطة جأشه في مواجهة النقد الذي قد يوجه إليه.

ولهذا، فإن أول رد فعل حيال ملاحظات الآخرين هو التصدي لها لاشعوريا. ورغم أن هذه الآليات الدفاعية اللاشعورية ستزيد من ثقتنا بأنفسنا، فإنها في الوقت نفسه ستلقي الضوء على مساوئنا الشخصية، وانعدام الشعور بالأمان النفسي، ومواقفنا المستهجنة تجاه الآخرين.
نعمة التجاهل

لكي يتمكن المرء من تجاهل الملاحظات المسببة للقلق، عليه أن يتقن أسلوب الخداع النفسي وما يعرف بالانتباه الانتقائي، أي أن يستمع لما يرضيه ويتجاهل ما لا يرضيه.

فعلى سبيل المثال، يحاول الكثير من الناس تصيد كلمات الثناء من الآخرين، وهذا يجعلهم يطلبون من الأشخاص الداعمين لهم أن يبدوا رأيهم في آدائهم في النواحي التي يدركون أنهم بارعون فيها، ولا يتطرقون إلى ما عداها. ولكن أبسط طريقة لتجاهل الملاحظات هي أن تتفادى السماع إليها كليا.

وقد لاحظنا في النظام التعليمي أن الطلاب يديرون ظهورهم للنصائح الموجهة إليهم بشأن أدائهم في الواجبات المنزلية، ولا ينظرون إليها.

في مجال الصحة العامة، نلاحظ أن الناس يحاولون جاهدين أن يتفادوا زيارة طبيب الأسرة، لئلا يسمعوا نصائح

وفي مجال الصحة العامة، نلاحظ أن الناس يحاولون جاهدين أن يتفادوا زيارة طبيب الأسرة، لئلا يسمعوا نصائح تتعلق بتخفيف الوزن، أو الاقلاع عن التدخين، أو غير ذلك من حقائق أخرى تشعرهم بعدم الرضا عن أنفسهم.

وتكشف الأبحاث النفسية المزيد عن نزوع الناس إلى تجاهل ما لا يرضيهم. ففي إحدى الدارسات، شاهد الطلاب فيلما تعليميا زائفا عن مرض خطير، ولكن الطلاب الذين شاهدوا الفيلم لم يعرفوا أن هذا المرض لا وجود له، وسُئلوا في المقابل إن كانوا لا يمانعون جمع عينات من الخلايا من أفواههم لتقييم احتمالات إصابتهم بهذا المرض.

وأخبر الباحثون نصف الطلاب أنهم إذا أصيبوا بهذا المرض، فإن العلاج يتمثل في تناول أقراص على مدار أسبوعين، وقد وافق 52 في المئة من هؤلاء على إجراء الفحص الذي يتطلب جمع عينة خلايا الفم. أما النصف الآخر من الطلاب، فعندما عرفوا أن العلاج سيتطلب تناول أقراص لبقية حياتهم، فلم يوافق إلا 21 في المئة منهم فقط على إجراء ذلك الفحص.

وتؤكد هذه النتائج سلوكا شائعا بين الناس لوحظ في دراسات أخرى في مجال الرعاية الصحية وفي غيره، وهو أن الناس يتحاشون سماع نتائج الاختبارات والملاحظات التي يعتقدون أنها ستلزمهم بأداء شيء يكرهونه، أو يجدونه شاقا.
لست أنا!

رغم أنك ستشعر بسعادة إن تجاهلت النقد الموجه إليك، فقد تجد صعوبة في تجنبه كليا. وفي كثير من الأحيان، نحاول أن نجد طرقا للحفاظ على كرامتنا باللجوء إلى بعض الأساليب التي نخدع بها أنفسنا، مثل التضليل، أو صرف الانتباه عن مساوئنا.

وعلى سبيل المثال، إذا عرفنا أن أداءنا كان أسوأ من أداء غيرنا، فإن رد الفعل المعتاد هو أن تشير إلى عيوب هؤلاء وتبعد الأنظار عن عيوبك. وقد تقول لنفسك: “لا أنكر أن أداءها كان أفضل مني، لكن أصدقائي أكثر من أصدقائها، وأتمتع بشخصية أفضل من شخصيتها”.

ليس من الغريب أن نعظم صفاتنا الحميدة، ونضخم عيوب منافسينا، ولكن الأبحاث تبين أننا نبالغ في هذا السلوك كلما عرفنا أن منافسينا تفوقوا علينا. وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد يبدو بغيضا، إلا أنه قد يكون أسلوبا فعالا للحفاظ على تقديرنا الإيجابي لذاتنا، والتمسك به في مواجهة الفشل.

وإذا واجهت تقييما قاسيا، فلعل الشخص الذي وضع ذلك التقيم سيتلقى نقدك دوما، وذلك للتشكيك في صحة تقييمه.

وفي كتاب بعنوان “مزايا التقييم: علم تلقي ملاحظات الآخرين بصدر رحب”، يقول المؤلفان دوغلاس ستون وشيلا هين، المحاضران بجامعة هارفارد: “عندما نبدي ملاحظات ونصائح للآخرين، نلاحظ أنهم لا يجيدون تلقيها، وعندما نتلقاها، نلاحظ أن من يبدي الملاحظات لا يجيد تقديمها”.

أحيانا نلجأ إلى التشكيك في قدرات من يقيمون أداءنا

ولهذا، عندما رصدنا خطأ إملائيا في ملاحظة أبداها أحد النقاد قلل فيها من شأن مجهودنا في إحدى الأوراق البحثية، انتقدنا على الفور قدراته المحدودة في الإملاء، فكيف نثق في تقدير شخص لا يستطيع تهجي الكلمات؟ ولا شك أن الاستجابة للنقد بهذه الطريقة لم تساعدنا على تحسين البحث، ولكنها كانت أيسر بمراحل، كما أنها جعلتنا نشعر براحة من ألم النقد”.

وإن كان التشكيك في قدرات واضع التقييم ليس كافيا، فالخطوة التالية هي إلقاء مسؤولية الإخفاق عليه. وفي بعض الأحيان، تكشف الطريقة التي نلوم بها من يضع التقييم لنا عن أقبح وجوه التحامل على الآخرين.

وفي دراسة أجريت في جامعة واترلو في كندا، ذكر الطلاب الدرجات التي أحرزوها في دورات عديدة، ثم قيموا أداء المدرسين الذين أعطوهم هذه الدرجات.

وأظهرت النتائج أن الطلاب الذين كان أداؤهم دون المستوى المطلوب ألقوا باللوم على المدرسين، حفظا لماء الوجه، وكلما قلت الدرجات، زاد نقدهم للمدرسين.

والأهم من ذلك، بالغ هؤلاء الطلاب في نقد المدرسات. فقد اكتشف الطلاب الذين لم يبلوا بلاء حسنا أن إظهار تحيزهم ضد المرأة قد يكون طريقة فعالة للإلقاء باللوم على المدرسين.
تجنب جرح مشاعرك

يبدو أن جميع الملاحظات، حتى البناءة منها، قد تكشف عن أسوأ الجوانب في شخصياتنا. ولكن هل من الممكن أن نتجنب الآليات الدفاعية النفسية التي نلجأ إليها لتخفيف الضغوط النفسية؟

من المنطقي أننا لو استطعنا أن نتجنبها، لأصبحنا أكثر استعدادا لبلوغ أهدافنا. فقبل كل شيء، تعد ملاحظات ونصائح الآخرين من العوامل الأكثر تأثيرا على تنمية شخصيتنا، ولكنها لن تؤتي ثمارها إلا إذا استمعنا إليها.

والمشكلة أننا سنقع بين خيارين، كلاهما مر، فلو لم تحقق أهدافك ستشعر باليأس، ولو استمعت لنقد الآخرين فقد تصاب بالإحباط، رغم أنه قد يُساعدك في تحقيق أهدافك.

وإن كنا نخشى من ملاحظات الآخرين لأنها قد تجرح كرامتنا، فربما يكون الحل هو أن نتأمل الأسباب التي تجعلنا نثق في قدراتنا إلى هذا الحد. ويشير أحد الأبحاث إلى أن الناس لا يمانعون أن يتلقوا نتائج التشخيص الطبي إذا فكروا في أفضل خصالهم الإيجابية، وتذكروا الأحداث التي أظهروا فيها هذه الخصال.

ربما تكمن المشكلة في أننا نتعامل مع ملاحظات الآخرين على أنها شيء غير مرغوب من الأساس

وتفسر نتائج هذا البحث السبب الذي يدفع الأشخاص الذين لديهم اعتزاز بالنفس إلى الحصول على آراء وتعليقات الآخرين على أدائهم، بعكس نظرائهم الأقل ثقة بأنفسهم.

ولذا، فإن أردنا أن نتلقى الأخبار غير المرغوبة بصدر رحب، قد يجدر بنا أن نتبع بعض الوسائل التي نحتال بها على عواطفنا، وذلك للحفاظ على هدوئنا قبل سماع تلك الأخبار، وبهذا سنضمن أن الأخبار، سواء كانت جيدة أو سيئة، لن تمس كبرياءنا.

وربما يكمن الجزء الآخر من المشكلة في أننا نتعامل مع الملاحظات على أنها شيء غير مرغوب من الأساس.

وتظهر الدراسات النفسية التي أجريت عن الإقناع أن الناس يمكنهم خداع أنفسهم بسهولة للاقتناع بأنهم استمتعوا بتأدية مهمة يكرهونها، ولكن عليهم أن يؤمنوا في قرارة نفسهم أنهم اختاروا تنفيذها عن طيب خاطر.

فهل من الممكن أن نحتال على أنفسنا بطريقة مشابهة للإقبال على الملاحظات والنصائح، إذا حملنا أنفسنا على الاعتقاد أننا اخترنا تلقيها عن طيب خاطر؟

ويؤيد هذه الفكرة بحث أمريكي طلب فيه من مشاركين تقدير السنوات التي وقعت فيها أحداث تاريخية محددة، وكلما زادت دقة إجاباتهم، زادت الجائزة المالية المقررة لها.

ثم عرضت عليهم ملاحظات أبداها آخرون حول إجاباتهم. وبعض هذه الملاحظات كانت مجانية، وبعضها كانت تكلفهم بضعة دولارات إذا اختاروا أن يقبلوها.

بالطبع كان المشاركون يفضلون النصائح المجانية عن تلك التي تكلفهم المال. إلا أن المشاركين كانوا ينزعون إلى الاهتمام أكثر بالملاحظات التي حصلوا عليها في مقابل المال، وغيروا تقديراتهم لتتوافق معها. وتدل هذه النتائج على أن الناس يحرصون على الأخذ بالنصيحة التي دفعوا المال للحصول عليها.

ولو سعينا جاهدين للحصول على ملاحظات ونصائح أمينة من الآخرين، وإذا عززنا من ثقتنا بأنفسنا في مواجهة ما قد تحدثه هذه الملاحظات من أثر سلبي على النفس، فسنكون مستعدين لتقبل النصيحة التي نحتاجها بشده.

وثمة طرق تعيننا على تدريب أنفسنا على التعرف على الحيل الدفاعية النفسية التي نلجأ إليها لا شعوريا للتهرب من مسببات القلق، حتى لا ننساق وراءها ونفترض أننا دائما على صواب، والآخرين على خطأ.

ومهما اختلفت الطرق التي ستستعد بها نفسيا قبل تلقي الملاحظات، فإن جني ثمار الملاحظات القاسية التي يبديها الآخرون حول أدائك لن يكون سهلا. وقد يرشدك العلم إلى الطرق التي تجعلك تستفيد منها بشكل أفضل، ولكن في النهاية، أنت مخيّر، إما أن تعمل بالنصيحة أو تتجاهلها.

BBC