تحقيقات وتقارير

الطلاق دمار للأسرة وتشريد للأطفال


إحصائيات مخيفة، كشفت عنها رئاسة الشرطة القضائية، في وقت سابق، حول ارتفاع معدلات الطلاق حيث بلغت (52.023) ألف حالة خلال العام 2012، بمختلف ولايات السودان مقارنة بحالات الزواج البالغة (122.198) ألف حالة. وبلغت حالات الزواج التي تمت أمام المحاكم، حسب رصد الشرطة (396) قضية، مقابل (21.132) قضية طلاق مقارنة بـ(20.203) قضية في عام 2011، والذي بلغت فيه حالات الزواج التي تمت عبر المأذون (121.802) زيجة مقابل (30.891) حالة طلاق تبعتها تصريحات تؤكد تسجيل (30ـــ60) دعوى قضائية، تقدم بصورة يومية طلباً للطلاق بالمحاكم خلال العام 2016.
هذا الواقع دفع (الجريدة) للوقوف على مسببات الطلاق الذي أصبح ظاهرة طبقاً لتلك الإحصائيات، لتفجز أزمات اجتماعية تصورها مئات القصص المليئة بالمشاعر الإنسانية تترجم حال المطلقات ومعاناتهن الاجتماعية والاقتصادية في ظل غياب المعالجات الاجتماعية التي تخلق التوعية داخل الأسر وتتيح لها العيش بسلام.

إحصائيات رسمية:
دفتر يوميات التحريات كشف تسجيل (30 ـــ 60) دعوى قضائية تقدم بصورة يومية طلباً للطلاق بالمحاكم، والملفت أن معظم هذه الشكاوى، مقدمة من زيجات حديثة العهد، بينما تحمل أخرى بصمات أزواج عاشوا سنوات من الشراكة قبل أن يعكر صفو تلك العلاقة سبب ما، حيث كشف خبراء اجتماع أن نسبة الطلاق وصلت إلى (45%)، حيث يمثل سوء معاملة الزوجة لأهل زوجها أو المحيطين بها حوالي (60%) بينما تمثل نسبة خلافات بين الزوج وزوجته بسبب السلوك الشخصي مثل تعاطي (التمباك أو السكْر أو إهمال الزوجة) (50%) مما يدفع أحدهما لطلب الطلاق.

تتشابه المعاناة والحل واحد..
يتحول الفرح أحياناً إلى كابوس مزعج، خاصة إذا تعلق الأمر بالفشل في الحياة وفي إدارة الحياة العاطفية والأسرية فتنقلب الأمور على عقبيها وتتعقد، فالنساء بطبعهن حساسات لا يحتملن الحزن كثيراً..
في ذلك اليوم كانت تجلس بهدوء تراقب المكان، فقلبها كان يحس بأمر ما، إنها السيدة (كوثر)، الإنسانة الماهرة المتقنة لعملها بكل إخلاص، فهي أكبر إخوتها. حكت مأساتها والدموع تحتقن في عينيها قائلة: (كنت أحلم كغيري من الفتيات بأن أتزوج رجلاً محترماً أثق فيه وأعيش معه حياة مليئة بالسعادة والمحبة، وبينما كنت أعيش هذا الحلم، لاح لي فارس أحلامي حقيقة، فاحتفلت أسرتي، وسعدت بهذه الخطوة، وتمت المراسم وكان الفرح عظيماً) وأضافت: (تزوجته وذهبت إلى بيتي سعيدة فرحة، وما إن مرت شهور، حتى بدأت المناورات من أخوات زوجي). هنا صمتت قليلاً وأردفت: (حاولن الكيد لي، في بادئ الأمر لكني كنت حريصة على أن لا أقحم زوجي في خلافاتنا خوفاً على بيتي وعشي الهانئ، ولكن حماواتي ضغطن علي وكن يكلن لي الشتائم والتوبيخ حتى خرجت عن صمتي، فرددت بالمثل فاشتبكنا في شجار بسبب المطبخ)، واسترسلت كوثر: (لم أتحمل الموقف فذهبت إلى بيت والدي وهناك أخبرت الجميع فلم يتمالكوا أنفسهم وبدأت المشكلة مع زوجي وأهله، ولم يستطع الأجاويد احتواء الموقف فرمى علي يمين الطلاق، وانتهى كل شيء و(خرب بيتي)، وظن أخوات زوجي أنهن ظفرن). هنا سكتت والدموع تنهمر، ومن بين دموعها أخذت تردد: (أنا مظلومة، كل شيء كان مخططاً لطردي من بيتي، احتفلن بتحطيم سعادتي وما بين يوم وليلة تبدد الحلم وتحول إلى كابوس مزعج أعيشه إلى يومنا هذا بسبب تبعات الطلاق الذي أعاني من وصمته الآن منذ أكثر من 5 سنوات).

(س.ع) كنت متحمسة جداً لفكرة الزواج من رجل أجنبي، لأسباب ظنت أنها ستقيها شر الإخفاقات، وعندما سألناها عن تلك الأسباب، أجابت بأن “الأوضاع الاقتصادية الجيدة تعويذة لكل شريكين، بجانب الاحتكاكات المباشرة مع أهل الزوج وهذه مشكلة كبيرة في حد ذاتها بالنسبة لي”. وتابعت (س. ع) حديثها عن زوجها الأجنبي قائلة: (وجدت أخيراً شريك حياتي، وهو رجل أنيق المظهر معسول الكلام من أحد الدول العربية، وافقت على الفور دون أن أفكر في عواقب الزواج من أجنبي على الرغم من سماعي عدة قصص حول فشل الزواج من خارج الحدود، فقط لأنه كان حلمي بالزواج من أجنبي، فكل شيء كان يدفعني إلى الارتباط به، وقاومت رفض أسرتي الصغيرة والكبيرة التي عارضت الأمر في بداياته لكنها امتثلت لرغبتي، استمرت تجربتي ست سنوات أنجبنا خلالها طفلين، ثم بدأ زوجي يتغير شيئاً فشيئاً، كنت أحسب الأمر سحابة عابرة، حتى فاجأني باختفائه من حياتنا دون أيّ أسباب، بحثت عنه ولكن لم أجده)، أخذتها موجة من البكاء قبل أن تواصل قصتها قائلة: (أخبرني أحد أصدقائه بأنه هرب إلى بلاده وتركني أنا وأبنائي نعاني فقد أصيب ابني الصغير بمرض الكلى فلم أجد سبيلاً سوى البحث عن عمل أعيل به أسرتي الصغيرة، فلجأت للعمل في أحد المصانع بالمنطقة الصناعية بمدينة بحري، وعلى الرغم من المتاعب التي واجهتني لكن ليس لي مفر سوى العمل فتجربتي كانت مريرة بكل تفاصيلها وتعلمت درساً بأن القرار الفردي خاصة فيما يتعلق بالزواج غير صائب).

فتحية محمد، أم لأربعة أطفال قالت: (في بادئ الأمر كانت الحياة تسير بصورة طبيعية على الرغم من قلة دخل زوجي اليومي الذي لا يكاد يتعدى ما يسد رمقنا إلا أن الأسرة كانت متماسكة أمام الظروف الاقتصادية الضاغطة)، وأضافت: (لم يخطر ببالي أن زوجي يخطط للهرب من المنزل وتركي وأولادي دون معيل. ذات يوم قال لي أريد أن أذهب إلى أهلي زيارة في (البلد) وسأعود خلال فترة فليلة تاركاً لنا مصروف شهر، لم أرفض فكرة سفره بسبب ثقتي المفرطة فيه لكن كانت المفاجأة بأنه استقر هناك دون علمي وأبنائه، طال انتظارنا لمجيئه شهراً وراء شهر وكلما اتصلت به يأتي رده “سأعود قريباً” مما اضطرني لإلغاء عقد الإيجار بسبب تراكم قيمة الإيجار ولم أعد أستطيع دفعه. عدت إلى منزل والدي انتظاراً لعودة زوجي ولكنه لم يعد حتى علمت بزواجه من أخرى تصغرني سناً، علمت مؤخراً أنها تمتلك ثروة ووضعاً اجتماعياً مميزاً، فتركني وأبنائي نعاني الفاقة والعوز، وعندما زادت الأمور الاقتصادية تعقيداً عملت في أحد المكاتب كعاملة لأعيل أبنائي، ولم يترك لي زوجي خياراً غير طلب الطلاق بسبب النفقة).

(فاطمة)، تبدو تجربتها مختلفة قليلاً عن سابقتها، حيث قالت: (لدي تجربتان مع الطلاق، الأولى انتهت بسبب خلاف مع والدتي عندما، أصرت عليّ والدتي أن أذهب معها إلى مسقط رأسها، فرضخت لها، ومن هنا تفجرت المشكلة فغضب زوجي ووقع الطلاق، وانتهى كل شيء وعدت مع والدتي لرعاية ابنتي، فجاء ابن خالي وطلب يدي فوافقت، وتزوجنا وأنجبت منه ثلاثة أبناء، ولكن مع مرور السنوات بدأت بيننا المشاكل بسبب عصبية زوجي الشديدة، حتى وقع الطلاق فأصبحت مطلقة للمرة الثانية. كرهت كل شيء واستسلمت للإرادة فبدأت العمل بالسوق في مهنة بيع (الشاي) لرعاية ابنتي الكبرى وأخواتها حتى زوجتها، والتفت إلى إخوتها وحرصت على تعليمهم وكافحت من أجلهم حتى ظهر لي رجل آخر في حياتي فتزوجته والآن أعيش معه في سلام ولم يمنعني من العمل نسبة لأن دخله محدود ولا يكفينا، ولكني أستطيع القول إن تجربة الطلاق مريرة بكل تفاصيلها ومؤلمة وتدخل السيدة المطلقة في عقدة بحسب نظرة المجتمع إليها).

دعاوى جنائية
المحامي أحمد علي عبد الرحمن، أكد لـ(الجريدة) أن أكثر حالات الطلاق، تعود لدعاوى شرعية، حيث بلغت نسبة الطلاق في الوقت الراهن حوالي 80% وأرجع أسباب الطلاق إلى الأزمة الاقتصادية، حيث تؤدي الظروف المادية للأزواج دوراً كبيراً في تأزيم المشكلات الأسرية إلى أن تنتهي بالطلاق، كما يدفع الزوجة لطلب الزواج أحياناً هروب الزوج من المنزل الأمر الذي يؤدي إلى تعقيد الحياة بينهما فتضطر إلى طلب الزواج عبر المحكمة. وأضاف: (بوصفي محامياً أعمل أحياناً على إيجاد حل قبل الوصول إلى مرحلة التقاضي وذلك إذا كان السبب سوء تفاهم بين الطرفين، خاصة إذا بينهما أطفال إلا أن هنالك حالات لا ينفع معها الحل أو الصلح، كالعنف الذي يمارسه الزوج على الزوجة المتمثل في الضرب والإذلال)، منوهاً إلى أن السيدات في الوقت الراهن يحاولن الحفاظ على حياتهن الزوجية على الرغم من الظروف الاقتصادية الضاغطة فالأسباب التي تدفع معظم النساء لطلب الطلاق هي أسباب شرعية.

أسباب مباشرة..
أكثر من 99% من الزيجات في السودان تتم قضاءً وقدراً ودون فحص ما قبل الزواج ودون كشف مسبق ودون إرشاد أسري، مما يؤدي إلى الطلاق داخل المحاكم التي انتشرت مؤخراً، بهذه العبارة الصادمة ابتدر استشاري الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية، بروفيسور علي بلدو حديثهُ حول الموضوع، موضحاً أن العنف الزوجي يبدأ في الواقع في فترة الخطوبة ولكن يتم السكوت عنه أملاً في تحسن سلوك الشريك أو خوفاً من الأسر أو طمعاً في الحصول على لقب متزوجة والذي يراود أحلام الكثيرات ثم ما يلبث الأمر أن يستفحل في الأيام الأولى للزواج، وهذا ما نطلق عليه عنف شهر العسل والذي أودى بحياة الكثيرات واللائي لقينا حتفهن على أيدي أزواجهن في الأيام الأولى للزواج خنقاً وطعناً وركلاً لتختلط الدماء مع الحناء في مشهد تراجيدي مؤثر لا يبارح مخيلة كل من رآه مثلنا ويكون المحرك الأساسي لهذا العنف عدم الرضاء الجنسي والمشاكل الجنسية والخوف من الفضيحة أو انتشار الأخبار (إن فلان ما راجل) مما يجعل هذا العنف الزواجي تعويضاً عن النقص الذكوري في هذه الأيام. وأضاف: (ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه في مقبل أيام الحياة الزوجية لتظهر الإساءات اللفظية والتجريح والشتائم وكثر افتعال المشكلات والمشاجرات من قبل الأزواج وتصاحب ذلك أنواع مختلفة من العنف المصاحب، مثل المنع من الخروج، والتشويه بالمواد الحارقة وغيرها من مظاهر العنف البدني وتكون مرجعية العنف في هذه المرحلة من الزواج إلى الشك والغيرة والهواجس والارتياب جنباً إلى جنب مع المشاكل الأسرية في الأسر الممتدة والضغوط المعيشية والحياتية وأيضاً التباعد الوجداني والمكاني الذي أفرزهُ موقع الهجرة والاغتراب ما يعمق الفوارق بين الزوجين وعدم التناغم بينهما مما يفتح باباً واسعاً للعنف للخروج من حالة الكدر الزواجي والاحباط الأسري والاكتئاب داخل الأسرة). وأشار بلدو إلى جزئية مهمة تتمثل في ذهاب الزوجة إلى المحكمة طلباً للطلاق بسبب العنف الأسري وما يلحق بها من أضرار عبر مراحل معينة تبدأ بالصدمة النفسية ثم تليها محاول رأب الصدع والمفاوضات والتي ما تلبث أن تخبو بعيداً ليحل محلها التهديد والوعيد وطلب المساعدة من الأسرة والأصدقاء، ويلي ذلك الشعور بالاكتئاب والضجر والذي يقود متزوجات أحياناً إلى الانتحار وفي النهاية تأتي مرحلة الاستبصار وطلب الطلاق من الزوج والذي يُقابل بالرفض خصوصاً من الأزواج أصحاب الشخصيات المرضية، والساديين وغيرهم من مدمني المخدرات وأيضاً المصابين بمتلازمة الامتلاك والاستحواذ والذين يشعرون بسعادة غامرة في جولات المحاكم وطول التقاضي كما يوكلون أمهر المحامين ويصلون إلى أعلى درجات التقاضي إمعاناً في تعذيب وإذلال زوجاتهن.
واختتم د.بلدو إفادته مشيراً إلى “نوع آخر من العنف الأسري تعاني منه كل نساء السودان دون فرز وهن لا يعلمن ذلك، وهو العنف المعنوي الذي يتمثل في عدم التقدير أو إطلاق العبارات الجميلة والمدح والثناء والتعليق على مظهر الزوجة ورفع روحها المعنوية، وأثق تماماً أن العنف لو كان سبباً مقبولاً في التشريع للطلاق لما بقي في بيوتنا أحد”.

وأشار، محمد أحمد، المهتم بشوؤن الأسرة إلى أن الطلاق أصبح كابوساً يهدد الأسر السودانية ويشرد الأطفال، وبدلاً من أن يكون حلاً أضحى كارثة يمتد تأثيرها على نطاق أوسع ويسبب الكثير من العقد النفسية والاجتماعية، وعندما تكون أسباب الطلاق غير منطقية أو مناسبة يصبح الظلم هو الأقرب إلى فراق زوجين عاشا مع بعضهما سنوات بحلوها ومرها. فالمطلقة تعاني ضغوطاً نفسية واسرية لأنها تحمل الهم الأكبر في تربية الأسرة خاصة إذا كان لها أطفال صغار بجانب نظرة المجتمع والظروف الاقتصادية التي تقف عائقاً أمامها لتربية أولادها فتلجأ لطرق عدة لتربية أبنائها ومساعدتهم على تحمل الواقع الجديد.

قضية: حواء رحمة
صحيفة الجريدة