الطيب مصطفى

بين رفع العقوبات والصلف الأمريكي (2)


بين يدي ترقُّب الشارع السوداني للقرار الأمريكي المزمع إصداره غداً الأربعاء حول العقوبات المفروضة على بلادنا أوردنا بالأمس نماذج من التعامل الأمريكي الظالم واللا أخلاقي مع السودان ومع العالم أجمع، سيما وقد قال قائلهم في غطرسة وطغيان عجيبين إن على السودان (الالتزام بضبط السلوك) سواء رفعت أمريكا عنه العقوبات أم أبقتْها. وكُنا قد عبّرنا في مقال الأمس عن دهشتنا أن تتحدث أمريكا الفاجرة عديمة الأخلاق عن (انضباط السلوك) في تجسيد حي ومثال صارخ للخاتنة غير المختونة!!!

لم نكن نبتغي من التذكير بالطغيان الأمريكي سوى الطرْقِ على ما ظللْنا ندعو ولاة أمرنا إلى وضعه في الاعتبار عند التعامل مع أمريكا (شيطان العصر وأكبر طواغيت التاريخ)، سيما بعد أن نصَّبت على رأسها كاوبوياً مغروراً يدعى (ترمب) يحمل عقلية استعمارية ويفاخِر برغبته في استعمار الأمم والشعوب الأخرى والاستيلاء على ثرواتها ولا يداري كسابقيه أو يتخفَّى أو يتجمل، وقد أوردنا نماذج من أقواله وأطماعه في العراق إبان حملته الانتخابية حين قال على رؤوس الأشهاد أنه سيأخذ بترول العراق .. نعم، لقد قالها هكذا على رؤوسِ الأشهاد (وبعظمة لسانه)، وأمام العالم أجمع بدون أن يطرَف له جفن : I will take their oilوذلك بعد أن قال إنه لا توجد دولة اسمها العراق، ثم كرَّر مقولته عند حديثه عن ثروة السعودية التي زارها بعد ذلك وخرج منها، ويا للعجب، بصفقة بلغت مئات المليارات من الدولارات!

أود أن أسألكم قُرَّائي الكرام: هل هناك فرق بين هولاكو وهو يدخل ويستبيح بغداد ويُسقِط الدولة العباسية في عام 1258م، وبين احتلال جورج بوش بغداد وإسقاط صدام حسين قبل سنوات؟!

ماذا ترون قُرائي الكرام في من يستقبل هولاكو مبتسِماً ومستسْلِماً على أبواب بغداد؟ هل يختلف بربِّكم عن من يهش في وجه أمريكا ويوطّئ لها الأكناف ويواددها بل ويحبها (عديل كده) وهي تحتل ديار المسلمين من أفغانستان مروراً بالعراق والجزيرة العربية، بعد أن نكّلت بالمسلمين ومزّقت بلادهم وشردتهم في أرجاء الدنيا ومكّنت إسرائيل من احتلال المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟!

سواءٌ رفعتْ أمريكا عن السودان عقوباتها أم لم ترفعها فإنها ستظل عندي هي الدولة الإمبريالية الظالمة التي تحتل ديار الإسلام، وسأظل أُعاديها إلى أن تكف عنا طغيانها، ليس في السودان فحسب – فكل ديار الإسلام أوطاني – ولن نك!رر سيرة آخر خلفاء الدولة العباسية (المستعصم) وهو يسلّم مفاتيح بغداد إلى هولاكو كما لن نكّرر فعل الجلبي وكرزاي وغيرهما ممن دخلوا بغداد وكابول على ظهور الدبابات الأمريكية، فوالله الذي لا إله إلا هو لن نواددها، وقد فعلت بنا في عصرنا هذا أضعاف ما فعله هولاكو بالدولة العباسية، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ،

لكن دعونا نسائل أنفسنا.. لماذا نعيب على أمريكا ما فعلته وما تفعله بنا وقد رأتنا في تلك الليلة التي أصدر فيها رئيسها السابق أوباما قراره بالرفع الجزئي للعقوبات أكثر فرحاً بقرارها من فرحنا بدخول جنة ربنا سبحانه؟!

نعم، كُنا كذلك، فقد انتابنا إحساس غامر بأن حياتنا ومصيرنا وأمرنا كله معلق برضا أمريكا عنا وأنها تملك أن تُسعدنا وتُشقينا وتُميتنا وتُحيينا بعد أن أشركناها بالله رب العالمين!

لقد بلغ الانبهار بكثيرين منا درجة إشراك أمريكا بالله حيث جعلوها – أو كادوا – بمثابة الرزاق ذي القوة المتين، وبعد أن اعتقدوا أنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهي رابعتهم ولا خمسة إلا وهي سادستهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهي معهم أينما كانوا !

نعم، كان حالنا غداة رفع العقوبات كحال من نصّب أمريكا رباً أعلى يرجو رحمته ويخشى عذابه حيث أخذنا بعدها نحسب الفترة المتبقية من الرفع النهائي للعقوبات بالساعات والدقائق وربما الثواني!

حالة من الانكسار والانهزام النفسي أفلحت أمريكا في زرعه في نفوس الشعب السوداني كله إلا من رحم الله، ساهمت الحكومة بإعلامها وسلوكها المستخزي في غرسها في نفوس أبناء السودان في إطار سعيها لصنع مشجب أو (شماعة) تعلّق عليها كل إخفاقاتها وعجزها عن تحقيق أحلام التنمية المنشودة.

ربما تؤجّل أمريكا قرار الرفع النهائي للعقوبات لمدة من الزمن، وهنا يأتي تحذيرنا للحكومة من أن تسير على ذات النهج الانبطاحي القديم الذي يعطي بالمجان ويمنح ويصدق وعود الشيطان الرجيم ويلدغ من ذات الجحر مرات ومرات!

أقول إن على الحكومة في حال عدم الرفع النهائي للعقوبات وتأجيل الأمر لفترة ستة أشهر اخرى، وهو المتوقع، أن (تركز) وتتعلّم من أخطائها فأمريكا كما لخّص سلوكها وزير خارجيتها الأسبق كيسنجر (لا تدفع ثمن ما يُهدَى إليها)، فلقد أدمنَّا تمزيق الأوراق أمام أمريكا، بل مع الجميع بمن فيهم دولة جنوب السودان الفاشلة كما أوضحنا في مقال الأمس.

وضع السودان الآن في محيطه الإقليمي أفضل بكثير مما كان عليه في السابق، خاصة فيما يتعلّق بملف الإرهاب الذي يمثّل الهاجس الأكبر لأمريكا وأوروبا ولو أوقف السودان تعامله الأمني مع أمريكا ونزع يده من التعاون العسكري في مشروع “أفريكوم” لكان ذلك كافياً لجعل أمريكا تتعامل مع السودان بصورة أكثر جدية، كما أن الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا والوضع في جنوب السودان وفي ليبيا من الملفات التي يُمكن للسودان، إن أحسن التفاوض، أن يُرغِم أمريكا على التعاطي معه حولها بشكل أفضل.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة