تحقيقات وتقارير

لم يبلغوا سن الرشد بعد أطفال عربات النفايات.. (عمالة) فرضتها الحاجة


الأطفال العمال: ليس أمامنا سبيل غير العمل بالأيدي العارية
البلاستيك محفز أساسي لإقبال الأطفال على العمل في مجال النفايات

نائب برلماني: الحكومة ضالعة في تعيين الأطفال في مهنة النفايات
اللواء نمر: لا يوجد رابط قانوني بينهم وبين هيئة النظافة بالولاية

قبل أن يخلد للنوم بعد يوم شاق ومضنٍ من العمل المتواصل طوال ساعات النهار، لا ينسى أدم تذكير والدته بإيقاظه قبل موعد صلاة الصبح بنصف ساعة ، وفي هذا التوقيت الباكر فإن صاحب الستة عشر عاماً يدخل في سباق مع الزمن لأداء الصلاة في المسجد ثم العودة للمنزل لتناول الشاي، ومن ثم الانطلاق الى مكان عمله، فهو ومنذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره ظل يعمل على متن عربات النفايات بثلاث من محليات ولاية الخرطوم، ولا يهتم كثيراً بكونه لم يصل إلى السن التي تتيح له التعيين رسمياً في وظيفة بالخدمة المدنية، ويقول غير عابئ “المشكلة وين، شغل وبقدر عليهو، وناس كتاااار في عمري ده شغالين معانا”، آدم الذي يقطن في الفتح اثنين بأم درمان مثل غيره من يافعين لم يبلغوا سن الرشد بعد، إلا أنهم يعملون في مجال جمع النفايات رغم أن هذا يخالف نصوص القوانين الدولية التي تمنع عمالة الأطفال.

قريباً منهم
في منتصف الشهر الماضي، وحينما تناهى إلى مسامعي صوت صافرة مميزة يعرفها سكان الأحياء بالعاصمة خرجت من منزلي لوضع النفايات، لأن من أطلق الصافرة كان يعلن عن اقتراب عربة النفايات بذات الطريق الذي سلكه، ولأننا في المايقوما بالحاج يوسف نعاني كثيراً من تأخر وصول عربة النفايات بصورة راتبة ومنتظمة، لذا فقد خرجت سريعاً حتى لا تمر العربة دون أن تحمل النفايات التي تراكمت داخل المنزل، وأول ما لفت نظري عند خروجي إلى الشارع أن الذي يطلق الصافرة يبدو من ملامح وجهه وجسده النحيل صبياً لم يبلغ سن الرشد بعد، أسرعت الخطى ولحقت به واستفسرته عن العربة، فأكد أنها قادمة، وكان ساعتها يسير ويتحدث معي، وفي ذات الوقت يطلق العنان لصافرته، فسألته عن عمره فأشار إلى أنه يبلغ سبعة عشر عاماً، لم أصدقه ولكن رأيت أن أواصل الحديث معه، فقلت لهم مهنتكم شاقة فكم تتقاضون فكشف عن أن راتبهم الشهري يبلغ 500 جنيه “خمسمائة جنيه لاغير”.

مهام متعددة
لم أتمكن من إكمال حديثي معه بعد أن أسرعت خطاه للإعلان عن قدوم العربة، فتركته على أمل أن ألتقي بمن هو في عمره في العربة والتي حينما وصلت ظهر عاملان وكلاهما كانا في عمر الشباب أو في العقد الثالث من عمريهما تقريباً، ولأن نفايات الحي الذي أقطنه كانت كثيرة فإن العربة تأخرت وكانت هذه سانحة جيدة لأتجاذب أطراف الحديث معهم وأنا أعمل على مساعدتهم في رفع النفايات ووضعها على متن العربة الضاغطة، فسألت أحدهم عن أجرهم الشهري فأكد لي معلومة اليافع بأنه يبلغ خمسمائة جنيه في الشهر، وقال إنهم يعملون في اليوم أكثر من عشر ساعات متواصلة، سألته عن الصعوبات التي يواجهها صغار السن في عملهم الشاق، فقال: هؤلاء أطفال أجبرتهم ظروف أسرهم على العمل في عربات النفايات، ونحن نترك لهم في كثير أحيان مهمة أداء إطلاق الصافرة بالإضافة إلى فرز النفايات بالعربة ، سألته: هل جميعهم يعملون بصفة رسمية، أجاب قائلاً: بعضهم تم تعيينه ويتقاضى أجورا شهرية، وآخرون يعملون دون أجر من أجل الظفر بنفايات يمكنهم الاستفادة منها ومن ثم بيعها .

ما عارف والله
كنت أدرك جيداً أن ظروف البلاد الاقتصادية المتردية قد أجبرت الكثير من الأسر الفقيرة على إيقاف مسيرة أبنائهم التعليمية وتوجيههم نحو سوق العمل حتى يتمكنوا من إعانتها، ولكن لم أضع في حسباني أن مهنة شاقة مثل جمع وترحيل النفايات يمكنها أن تجذب أطفالاً صغاراً لتصادر طفولتهم وتضعهم أمام مخاطر جمة.

في حي الشعبية ببحري ومن ثم كوبر والأملاك تصادف أثناء تجوالي في هذه الأحياء مرور عربات النفايات، وأيضاً لاحظت وجود شباب في أعمار صغيرة هي أقرب للطفولة يعملون في عربات النفايات، وفي الأحياء الثلاثة تجاذبت أطراف الحديث مع من كانوا بهذه العربات، حول ذات الأمر الذي كان مثار اهتمام أشار سائق عربة نفايات إلى أن بعض الأطفال يتمتعون ببنية جسمانية جيدة وأن معيار تعيينهم يستند على هذا الأساس، وقال إنه لا تتم مطالبتهم بإحضار شهادات تثبت وصولهم إلى السن القانونية وهي ثمانية عشر عاماً، وأثناء حديث السائق معي أشار إلى أحد العاملين معه، وقال إنه شاب يدعى حماد ويبلغ من العمر سبعة عشر عاماً ، وأضاف: مثله كثيرون يعملون في جمع النفايات ، البعض يتقاضى أجوراً ثابتة، وآخرون يحضرهم عمال بالعربات لمساعدتهم في فرز النفايات خاصة القوارير البلاستيكية نظير أجر متفق عليه بعد بيع ما يحصلون عليه من عبوات بلاستيكية فارغة إلى المصانع، ورغم أن السائق بدا غير راضٍ من عمل الأطفال إلا أنه رأى أن ظروف أسرهم هي التي دفعتهم وأن عملهم في عربات النفايات يعتبر أفضل لهم بكثير من أن يتحولوا إلى عطالة ومجرمين.

ما عارف والله
في السوق العربي فإن طفلاً يعتلي إحدى عربات النفايات لفت نظري ويرتدي ملابس بالية، وكان يعمل مع الكبار في وضع النفايات بالعربة، اقتربت منهم وألقيت عليهم التحية، ولكن جاء ردهم “بارداً” وهذا يعني عدم استعدادهم للحديث معي، إلا أنني فاجأتهم بالقول إن عملكم شاق ومضنٍ، ونسأل الله أن يعينكم ، ومباشرة سألتهم عن أسباب عدم ارتدائهم قفازات وأحذية واقية وأفرولات، وقلت لهم إن عملكم بهذه الطريقة قد يعرضكم للأمراض، فتجاوبوا معي في الحديث، وأكدوا أنه ليس أمامهم سبيل غير العمل بالأيدي العارية من القفازات، ونفوا أن تكون هيئة النظافة قد منحتهم أزياء خاصة لهذا العمل، وأدرت دفة الحديث سريعًا لأن عربتهم كانت قد بدأت في التحرك وسألتهم عن عمل الأطفال معهم، فاعترفوا بوجود عدد مقدر منهم، وأشاروا إلى ثالثهما الذي كان يرتدي “كاب” ليقيه حرارة الشمس، ويدعى محمد والذي وفي كلمات موجزة قال إنه ترك الدراسة وبحث عن عمل ولم يجد وإن أحد أصدقائه حصل له على فرصة عمل في شركة نظافة، وبعد ذلك انتقل للعمل في عربات النفايات، وقال إن البلاستيك هو المحفز الأساسي لإقبال الإطفال للعمل في مجال النفايات لأن عائدها وكما يؤكد جيد، بعد ذلك تحركت عربتهم، وقد صعد على متنها ورأيته وهو ينقب في النفايات لاستخراج العبوات البلاستيكية.

مخالفة القوانين
قد تبدو الحروب من الأسباب الأساسية وراء دفع الأطفال لترك مقاعد الدراسة والاتجاه إلى سوق العمل بغية الحصول على المال الذي تحتاجه أسرهم الموغلة في الفقر، ورغم ذلك فإن الكثير من القوانين الدولية ترفض الاعتراف بمبررات الحرب لتكون شماعة يعلق على مشجبها عمل الأطفال عامة وفي المهن الشاقة مثل جمع النفايات خاصة، ويعتبر القضاء على عمل الأطفال من أبرز الأهداف التي نصبتها منظمة العمل الدولية لنفسها منذ نشأتها في عام 1919، ومن الأدوات الرئيسية التي اعتمدتها المنظمة بمرور الزمن لتحقيق هدف القضاء الفعلي على عمل الأطفال، اعتماد ومراقبة معايير عمل تجسد مفهوم الحد الأدنى لسن العمل أو الاستخدام، إضافة إلى ذلك ومنذ عام 1919 فصاعداً، أُدرج مبدأ ربط معايير الحد الأدنى للسن بالدراسة كجزء لا يتجزأ من التقليد المتبع في منظمة العمل الدولية في وضع المعايير في هذا المجال، وتنص الاتفاقية رقم 138 على أن الحد الأدنى لسن القبول في الاستخدام يجب ألا يكون أدنى من الحد الأدنى لسن الانتهاء من التعليم الإلزامي.

وأدى اعتماد منظمة العمل الدولية للاتفاقية رقم 182 إلى تعزيز توافق الآراء العالمية بشأن ضرورة القضاء على عمل الأطفال، كما سمح اعتماد هذه الاتفاقية بتسليط الأضواء على هذا القضية على النحو اللازم دون إغفال الهدف الشامل المحدد في الاتفاقية رقم 138، ألا وهو القضاء الفعلي على عمل الأطفال، إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم أسوأ أشكال عمل الأطفال يسهم في تحديد الأولويات ويمكن استخدامه كنقطة انطلاق في معالجة مشكلة عمل الأطفال ككل، ويسهم المفهوم أيضًا في توجيه الانتباه إلى أثر العمل على الأطفال فضلاً عن العمل الذي يؤدونه.

لفت نظر واحتجاج
إذن فإن المنظمة الدولية للعمل وفي إطار سعيها لمحاربة عمل الأطفال فقد اتخذت الكثير من التشريعات والقوانين، غير أن برلمانياً سودانياً يؤكد أن ثمة جهات حكومية ضالعة في تشغيل الأطفال في مهن شاقة مثل جمع النفايات، وهذا أشار إليه بوضوح رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان بالإنابة متوكل محمود التجاني الى اتهام الحكومة بخرق القوانين الدولية بتوظيف الأطفال “القُصّر” للعمل في قطاع النظافة، مستدلاً بقطاع النظافة بولاية الخرطوم الذي قال إن العاملين فيه جميعهم من الأطفال دون الـ(20) عاماً، معتبراً هذا خرقاً للقوانين الدولية من قبل الحكومة التي أكد أنه يتوجب عليها احترام المواثيق الدولية التي تحظر عمالة الأطفال، وقال : يمكن أن تخرق الحكومة القوانين الدولية وتقوم بتعيين الأطفال للعمل في النفايات وتابع: “هذا الأمر يمكن أن يقوم به الناس العاديون، لكن أن تقوم الدولة بتعيين أطفال هذا أمر غير مقبول”.

نفي واتهام
وفي ذات القضية يشير نائب رئيس الجمهورية السابق عضو البرلمان الحاج آدم يوسف إلى أن الحديث حول توظيف الدولة للأطفال في مجال النظافة شأن ولائي يجب عدم عرضه في البرلمان ، وواصل الحاج آدم حديثه قائلاً: “أنا عضو عن ولاية الخرطوم، لذلك أقول إن حكومة الولاية تتفق مع شركات نظافة ولم تعمل على توظيف أطفال للعمل في هذا المجال، بل تتعاقد مع شركات، لذلك ليست هنالك علاقة للدولة بما ورد من عمالة أطفال”.

اعتراف ونفي
إذن، فإن رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان بالإنابة متوكل محمود التجاني، أكد ضلوع الحكومة في تعيين الأطفال في مهنة النفايات، ورغم أن نائب رئيس الجمهورية السابق الحاج آدم حاول رمي الكرة بعيدًا عن ملعب ولاية الخرطوم وإخراجها من المسؤولية، إلا أنه أوقعها تحت طائلة الإدانة دون أن يدرك، وذلك لأن سماحها للشركات بتعيين أطفال يعتبر أمراً مخالفاً، وهي الجهة الحكومية التي ينبغي عليها فرض شروطها وإلزام الشركات بالقانون.

في هذا الصدد فإن رئيس المجلس الأعلى للترقية الحضرية اللواء عمر نمر وفي حديث لـ(الصيحة) بوصفه مسؤولاً عن هية النظافة وكل ما يتعلق بها بالعاصمة، لم ينفِ وجود أطفال عاملين في مجال النظافة واعترف بعملهم، إلا أن نمر يقطع بعدم تعيين الهيئة لصغار السن في هذه المهنة.

ولم يذهب معتمد الخرطوم السابق في اتجاه نائب رئيس الجمهورية السابق، بل أشار إلى أن الأطفال الذين يتواجدون في عربات النفايات لا يوجد رابط قانوني بينهم وهيئة النظافة بالولاية وبالمحليات، وأضاف: إنهم يعملون دون أجر حيث يحضرهم بعض العمال الثابتين من أجل مساعدتهم في جمع العبوات البلاستيكية ومنحهم مالاً بعد بيعها، وأكد اللواء نمر اهتمامهم بهذه القضية بإيقاف عمل الأطفال حتى لا يتعرضوا لمخاطر.

الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة