تحقيقات وتقارير

ملاسنات السياسيين .. الخروج عن الأطر التنظيمية


«إن الاختلاف في الرأي أمر طبيعي, خاصة إذا كان في القضايا العامة داخل أي حزب من الأحزاب السياسية، من منطلق أنه ضرورة من ضروريات الحياة الديمقراطية داخل الحزب الديمقراطي المعني أو المؤسسة السياسية المعنية بالأمر.

ولكن أن يتعدى الخطاب واللغة الموقف إلى مواجهات شخصية لا مصلحة للحزب أو المؤسسة الصحفية فيها, فإن الأمر هنا بات إحدى المعادلات القياسية الصعبة التي من شأنها أن تقلب ميزان الحياة لتلك المؤسسة الحزبية أو ما شاكلها, إلى جحيم لا يطاق, كما حدث لأحزاب سياسية وقوى حزبية كبيرة لدينا بالداخل. وشهدت الساحة عقب ذلك مخاشنات تحولت لملاسنات كثيرة وكبيرة متواصلة بين زعماء أو قياديي تلك المؤسسة المتناحرين جراء منقصة شابت حصة أحدهما أو تغول أحدهما على صلاحيات ومساحات الآخر الذي لم يحتمل ذاك التدخل, فعمد إلى المواجهة الشخصية التي لا تذر نيرانها أرضاً أو غلة داخل الحزب يصلح لممارسة أنشطته بسلاسة وسلامة. هذا الحديث يقودنا مباشرة، إلى الدخول في ما ظلت تشهده الساحة السياسية السودانية من ملاسنات ومخاشنات للسياسيين تكاد تصل لحرب شعواء لا تبقي ولا تذر، إذ أن الأدوات المستخدمة فيها في غاية الخطورة، وهم أعضاء الحزب نفسه، بعد أن يلتف الأنصار كل على طرف أو سلاح الكروت الخفية والتي دوماً ما تكون السبب في إذعان الكثير منهم لرغبات ومطالب الآخر الذي ينجح باستخدامه لهذه الكروت غير الأخلاقية في تصفية حسابات خاصة لا علاقة للحزب السياسي والمؤسسة السياسية بهذا الجانب. تترك هوة عميقة لا يستطيع الحزب أو المؤسسة السياسية ردمها بالسرعة المطلوبة أو قريباً بحسب ما يتمناه أفراد وأعضاء الحزب الأصليين. وفي هذه المساحة نسلط الضوء على بعض هذه الصور من الملاسنات والمخاشنات بين قوى وقيادات حزبية داخلية, جرت وتركت أثراً عميقاً لا زال غائر الأثر, على ضوء ما جرى بين الصادق المهدي ومبارك الفاضل المهدي داخل حزب الأمة القومي إثر التجاذب الكبير والتخندق في إطار المنافسة على رئاسة الحزب مستقبلياً , بعد أن خرجت إفرازات خطيرة للساحة جراء هذه التصادمات بين أبناء العمومة داخل الحزب الواحد.
الشفيع والخطيب
كانت واحدة من الصراعات الثنائية بين اثنين من أبرز قيادات الحزب الشيوعي، وقد انحازت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى طرف دون الآخر حين علقت نشاط عضو اللجنة المركزية للحزب الدكتور الشفيع خضر ومجموعة أخرى من كوادر الحزب، مستبقة المؤتمر العام السادس، ويرى المرقبون أن الخطوة التي قام بها الحرس القديم بالحزب، تأتي للحد من نشاط الشفيع الذي يملك تأييداً داخل شباب الحزب والراغبين في التغيير.. الشفيع خضر أحد قيادات الحزب الشيوعي، له ماض طويل في مجال العمل التنفيذي، ومعروف عنه آراؤه الشجاعة داخل الغرف المغلقة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وخاض معارك كثيرة من أجل ما أسماه التصحيح والتغيير، وهي مواقف يرى البعض أنها لا تتسق ولا تتفق مع أفكار القيادات الموجودة الآن باللجنة المركزية التي نشطت للحيولة دون حصول الشفيع على منصب السكرتير السياسي للحزب من خلال مؤتمرين عاميْن، كما أنها ذات القيادات ساندت مختار الخطيب ليأتي خلفاً للراحل محمد إبراهيم نقد بعد رحيله. بيد أن الملاسنات التي تفجرت بين الخطيب والشفيع انتهت بعزل الثاني الذي التزم بالقرار مبتعداً عن الحزب الذي لفظه خارج مؤسساته التنظيمية، لتنتهي بذلك أكبر ثورة تصحيحية قادها الشفيع من داخل الحزب لأجل تغيير بعض المفاهيم التي يؤمن بعدم نجاعتها، ووقوف الحرس القديم خلف الزعيم الجديد مختار الخطيب، لتنتهي من بعد المعركة الكلامية بين الرجلين، رغم توالي الاستقالات من أعضاء الحزب ممن يؤيدون رؤى وطموح الشفيع خضر داخل الشيوعي.
الدقير وإشراقة
هي بعض الصراعات الخطيرة التي اختتمت باستقالة رئيس الحزب في خلاف فكري وتنظيمي مع أحد أعضاء حزبه وأحد كوادر مكتبه القيادي. تفجر الصراع بين إشراقة سيد محمود عضو الحزب الاتحادي المسجل، والسيد جلال الدقير الأمين العام ورئيس الحزب في قضايا ترى فيها إشراقة أنها محورية ولابد من الشفافية حولها، كالتي تتعلق بتمويل الحزب واتهامها للرئيس بالدكتاتورية – أي رغبته الجامحة في إحكام قبضته على كل مفاصل الحزب دون إشراك العناصر الفاعلة- والتي قادت معه انشقاق الحزب لحين تسجيله ودخوله حكومة الوحدة الوطنية والشراكة مع الحزب الحاكم المؤتمر الوطني. وقادت إشراقة حملات قوية ضد الدقير الذي واجهها ببرود تام، تاركاً أمرها لمركزية الحزب التي قامت بفصلها ومن معها من القيادات التي تنادي بندائها. ولم يفتر عزم إشراقة التي شنت الكثير من المواجهات والملاسنات إلى أن قام الدقير بإعلان استقالته عن الحزب مبتعداً عن السباب والملاسنات التي كانت تدور بينه وبين إشراقة التي لم تلتزم، حسب رؤى عناصر اتحادية، بأدبيات الحزب الذي نشأت داخله وحملت عصى العصيان ضد مقدراته ومؤسساته العاملة على ضبط وتنفيذ السياسات العامة والتحركات الملزمة للسيد رئيس الحزب في تلك الفترة. عقب إعلان الدقير لاستقالته واعتلى أحمد بلال عثمان الأمانة العامة للحزب، والرئيس الملكف، عرجت الخلافات بين الاثنين منعرجاً جديداً استطاع فيها أحمد البلال أن يضع حداً لمناورات إشراقة بالقيام بفصلها بصورة أثبت من خلالها أنها شرعية عقب مبادرة مركزية الحزب بهذا الإجراء. ورغم أن الملاسنات والمخاشنات ما زالت تبدو رغم تمسك إشراقة بعضويتها ومن معها، إلا أن حالة الشد والجذب بين القوتين اختفى عن الساحة التي باتت مشغولة أكثر بقضايا خلافية أخرى أعقبت تلك الخلافات . ولاح في الأفق أبطال جدد لصراعات وملاسنات حزبية تنظيمية جديدة، لينسى الكل أحداث الاتحادي المسجل، رغم أنها لا تزال واقعاً تعيشه عناصر الحزب القديم الجديد.
كمال وإبراهيم “عمر”
هذا الصراع جديد في شكله، لا يشبه الصراعات السابقة بين الأعضاء، إذ أنه نشأ بين قياديين داخل مؤسسة تنظيمية واحدة، ولكنهما لا يأتمران بلوائح تنظيمية لحزب واحد، فكل منهم آت من حزب آخر رغم التقارب البائن بين القوتين العظميين المؤتمر الوطني ونظيره الشعبي. فالصراع الذي دار داخل قبة البرلمان كان بين القيادي بالشعبي كمال عمر نائب الأمين السياسي والناطق الرسمي باسم الحزب، والسيد إبراهيم أحمد عمر رئيس البرلمان عضو المكتب القيادي للمؤتمر الوطني. وانطلقت الملاسنات بين الشخصيتين القياديتين حول نقصان الحصص التنفيذية والتشريعية لمنتسبي الشعبي داخل البرلمان. فرئيس كتلة نواب المؤتمر الشعبي د. كمال عمر، يرى أن الوطني تلاعب في حصص حزبه، واختصر رئاسة اللجان البرلمانية لنواب غير نواب حزبه، رغم أن الاتفاق يلزم الوطني بتعيين بعضهم في خانة رئيس كتل برمانية بدءاً من المجلس الوطني ومروراً ببقية المجالس التشريعية التي خلت ساحة ودفتر المؤتمر الشعبي من رئاسة أحدهما. لتستمر الملاسنات بينهما إلى يوم أمس، حيث وجه إبراهيم عمر حديثاً لكمال عمر، قد يساعد في تأجيج المسألة المتفاقمة بينهما رغم محاولة الشعبي عبر أمينه العام الذي أقام مؤتمراً صحفياً شجب فيه تصرفات أعضائه، ومحاولته الاعتذار عما بدر رغم تأكيده حجية عناصره في صراعهم مع نظرائهم من حزب المؤتمر الوطني (كمال- إبراهيم عمر) داخل قبة البرلمان. ولكن علي الحاج الأمين العام للحزب ، طالب أي واحد من أعضاء حزبه بالالتزام بأدبيات الحزب، وأن يملأ كل منهم “قاشه” ويبتعد عن الحديث الفارغ، بيد أنه طالبهم المقارعة بالحجة والموقف القوي دون السباب.
الصادق – مبارك
الخلاف بين هذين، يختلف عن كل الصراعات السابقة، فبالرغم من أنهما عضوان في حزب واحد، يتنازعان في زعامته زهاء العشرين عاماً ، إلا أنهما أبناء عمومة، كل منهما يحمل اسم الأسرة الكبير. الصادق المهدي رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، فهو السياسي المحنك المعاصر الذي اكتسب من خبراته عامة خلال ممارسته لنشاطه السياسي. الصادق رغم إنه يكبر مبارك سناً إلا أن الخلافات بينهما استفحلت لدرجة كادت تعصف بالعلاقات والقطيعة بين الاثنين. وبان ذلك خلال دعوة مبارك إلى التطبيع مع إسرائيل بالرغم من أنه قدمها ليس باعتباره الحزبي، وأنما كرأي شخصي ويشغل منصب وزير للاستثمار بالدولة، ولكن الحساسية بين الشخصين جعلت الأمر يطفو على كل الخلافات، ليعلن الإمام أن الدعوة لوثت اسم الأسرة الكبيرة معلناً تبرؤ أسرة المهدي منه. ويستغل مبارك كنكشة الإمام الصادق برئاسة الحزب، وسط دعوة الكثير من القيادات الشباب داخل صفوف الأنصار وحزب الأمة ودعوتهم المستمرة بإمعان الشفافية داخل حزب الأمة، وإجهاض محاولات التوريث التي يقودها الصادق المهدي. وباتت هذه النقطة هي التي يطرق عليها مبارك الفاضل المهدي، وتجد دعوته ردود فعل واسعة، بيد أن الإمام الصادق ومن منطلق خبراته السياسية والراديكالية، يفلح كثيراً في صنع المعارك بينه وابن عمه مبارك الفاضل المهدي. وفي آخر المعارك السياسية بينهما استطاع الصادق المهدي أن يقلب الطاولة على أخيه، وسدد بكل ما يملك طعنة قاتلة حينما استغل الردود العنيفة لدعوته تجاه إسرائيل. ويقول الدكتور السر محمد أحمد الخبير الاستراتيجي والسياسي لـ(الإنتباهة) إن المسرح السياسي ورغم أنه يتأهب لمعادلات جديدة، وأنه يحتاج لتحالفات داخلية وسط الأحزاب والقوى السياسية المعتدلة مع قوى الاستنارة من العناصر الملتزمة بأدبيات وسلوك الأحزاب، إلا أن البناء السياسي كثيراً ما يختل بمثل تلك السجالات التي كثيراً ما تقع بين مقربين داخل تنظيم واحد، أو عنصرين ينتميان لكيانين مختلفين سياسياً، وهذا التنامي في مثل هذه الصراعات من شأنها أن تدفع بالقوى السياسية تجاه عهد ظلامي خطير قد تتلاشى معه جميع المفاهيم والسلوك القويمة التي ربما لا تصلح لإدارات أنظمة سياسية فاعلة مستقبلاً. رغم أن هناك من يشير إلى العمق التكتيكي في مثل هذه المواقف لإضعاف بعض النفوذ الحزبية، فالخريطة السياسية تشير إلى مسارعة النظام إلى احتواء المنشقين من الأحزب والدفع بهم إلى مناصب يمكن استغلالها كغواصة مستقبلاً داخل هذه المؤسسة، رغم التضاد الواضح في المواقف والمفاهيم، ما يجعل هذه الظاهرة من الخطورة بمكان في إمكانية إمعانها بخلو الساحة السياسية من الالتزام الأخلاقي تجاه الآخر ، الصفة التي يتميز بها المجتمع السوداني.

عبدالله عبدالرحيم
الانتباهة