تحقيقات وتقارير

التغيرات المرتقبة في أجهزة الإعلام الحكومية ومراعاة مراكز القوى


{ بدأت قوافل عودة حجاج بيت الله لأرض الوطن فرحين بأداء الفريضة بينما حزم حجاج قصر الأمم في جنيف حقائب الأسفار إلى بلاد البط والبحيرات العذبة والجبال الشاهقة.. وحجاج بيت الله ينفقون على أداء الشعيرة من حُر مالهم باستثناء قلة من موظفي الحكومة.. من المحظيين بالرعاية الكاملة من السيارة إلى المنزل وتعليم الأبناء وعلاج الأمهات والحج على نفقة الدولة التي جف ضرعها ونفدت أموالها لكثرة (الراضعين) من ثديها المبذول.. وحجاج قصر الأمم الذين يستعدون الآن لرحلة سنوية يمتعون فيها النفس بمناظر بحيرة البجع وسط جنيف ويستريح البعض في فندق (دريك) القريب من السفارة السودانية من رهق الخرطوم بغبارها وأمطارها.. ويتسوقون رجالاً ونساءً عند متجر (رضوان) السوداني الذي ينتظر موسم حج السودانيين إلى سويسرا باللهفة والشوق لتتضاعف ثروته لأن أغلب المسؤولين وغير المسؤولين يحصلون على طلبات الثياب السويسرية والعمم والشالات من دكان (رضوان) وبالقرب منه اجزخانة (العيكوري) الطبيب الذي هجر ود مدني إلى سويسرا عاصمة العالم الجديد قبل سنوات.. والحج إلى جنيف فيه منافع للناس (الفوق) من مندوبي الوزارتين المتشاكستين في ملف حقوق الإنسان الخارجية من جهة والعدل من جهة أخرى.. ومنافع أكبر لمنسوبي المنظمات الوطنية التي تدعي أنها تنافح عن السودان بينما في الواقع هي تنافح عن مصالحها أو مصالح قادتها الذين يرضعون من ثدي المالية وتغدق عليهم الدولة ملايين الدولارات بزعم الدفاع عنها.. ولكن في الواقع أصوات هؤلاء لا يسمع إليها إلا أعضاء الوفد السوداني.. في كل عام يتعرض السودان لامتحان عسير يدققون في ملفاته الخاصة ويبعثرون ثيابه ويكشفون عورات البلاد وسط الأمم والشعوب بدعوى أن السودان ينتهك حقوق شعبه بينما دولاً أخرى في المنطقة تنتهك حقوق شعوبها وحقوق الشعوب المجاورة ولا تطالها الإدانات ولا يبعث لها بالمراقبين تحت فصل الإجراءات والتدابير الاستثنائية .لأن تلك الدول تملك المال والبترول وتشتري بمالها سمعتها ونظافة ثيابها (الخارجية) على الأقل أما الثياب (الداخلية) فتلك قصة أخرى..
منذ أن فقد السودان السند الدولي الغربي في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي.. انهالت الإدانات المتتالية لحكومة السودان في مجلس حقوق الإنسان بسبب الحرب الأهلية التي انتهت بفصل الجنوب عام 2011م وحرب دارفور والمنطقتين وتداعيات الصراع السياسي العنيف في الداخل وتبعات المواجهات التي تحدث من حين لآخر بين الحكومة والمعارضين من جهة.. والناشطين في منظمات المجتمع المدني المتربصين بالنظام الذي هو الآخر متربصاً بهم. وساهمت التصدعات الداخلية في توالي الإدانات الدولية في ملف حقوق الإنسان الذي كلما شهد تحسناً زاد سوءاً مرة أخرى.. ومابين الفصل الرابع الوصاية المباشرة والفصل التاسع المساعدات الفنية تحت مراقبة الخبير المستقل.. يتعرض السودان سنوياً لأكبر حملة تشهير دولية بسمعته وسلوكه في جنيف مما يؤثر على الاستثمار الغربي والاستفادة من التطور التقني الغربي.. والتضييق على السودانيين بزعم أنهم ينتهكون حقوق الإنسان وحاولت الحكومة الاتجاه شرقاً إلى الصين وروسيا وإدارة ظهرها للغرب والولايات المتحدة الأمريكية.. لكنها وجدت نفسها ضحية لجشع الصين وروسيا ونهمهم لموارد البلاد النفطية والمعدنية واستخدامهم لتكنولوجيا زهيدة ومتخلفة وبثمن باهظ؟ يقول البعض ما شأننا بقضية حقوق الإنسان التي تستخدم في مواجهتنا للنيل من سيادتنا؟ لماذا لا تتخذ موقفاً مقاطعاً لمجلس حقوق الإنسان مثلما تفعل كوبا وإسرائيل واريتريا وسوريا وكوريا الجنوبية وفيتنام وبلاروسيا؟ وماذا يضير الخرطوم أن هي تم تصنيفها كدولة (مارقة)؟ وبعض المسؤولين في السودان تقمصهم روحاً مريبة وهم ينظرون لملف حقوق الإنسان بعين السخط.. وقد قال يوماً وزير الصناعة السابق المهندس “المسيح الصديق النور” ماذا يضيرنا من إدانة مجلس حقوق الإنسان؟ هل الإدانة السنوية ستسقط النظام؟ لأن مثل هذا الوزير والمسؤول الكبير في الحزب الحاكم يعتبر (السقوط المادي) وحده هو الباعث لمناهضة قرارات مجلس حقوق الإنسان لكن السقوط الأخلاقي وسقوط السمعة لا ضير منه ولا أثر له على الوجود الفعلي للنظام الحاكم .

سيوف مشرعة
هل السودان أكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان من مصر ومشيخات الخليج وبلدات مثل غينيا الاستوائية في القارة الأفريقية والكاميرون ومالي؟ وبالطبع في السودان أفضل من أغلب هذه البلدان، ولكن المال الخليجي كفيل بشراء صمت المنظمات الطوعية الدولية التي تنشر تقاريرها عن أوضاع حقوق الإنسان في بعض البلدان وتغمض عينيها عن بلدان أخرى.. وفي حال السودان منذ تسعينيات القرن الماضي تتالت عليه الإدانات سنوياً وتراوح ما بين الوصاية المباشرة كما هو حاله قبل التوقيع على اتفاقية السلام الشامل 2005م وما بين واقعة اليوم تحت بند المساعدات الفنية وولاية الخبير المستقل الذي نشر الأسبوع الماضي في موقع مجلس حقوق الإنسان مقتطفات من تقريره السنوي المنتظر تقديمه في الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، وأهم سمات التقرير الجديد للعام الحالي الإشادة بإطلاق سراح عدد من الناشطين ومن بينهم الدكتور “مضوي إبراهيم” الذي أفرج عنه بقرار من الرئيس “عمر البشير” وبمبادرة من الصحافي “محمد لطيف” الذي يستثمر وجوده بالقرب من الرئيس وثقة قيادة الدولة فيه بإطلاق مبادرات ناعمة تخدم مسيرة الديمقراطية في البلاد.. وينتفع من مبادرات “محمد لطيف” المعارضون والحكوميون ولكن بعض من هؤلاء وأولئك للصهر الرئاسي كما يكنى كارهون.. ومن الإضاءات المشرقة في التقرير شموليته في الإشارة لتطبيق القانون على منسوبي الأجهزة الحكومية ورفع الحصانة عن ضباط وجنود في جهاز الأمن والشرطة وخضوعهم للقانون بعد ارتكابهم لأخطاء في الممارسة.. لكن بالتقرير صفحات مظلمة حيث دعا لاستقلالية القضاء السوداني من السلطة التنفيذية وتمكين أجهزة العدالة من أداء دورها.. والتشكيك في نزاهة القضاء من قبل الخبير المستقل بمثابة الطعن في آخر موضع من الجسد كان سليماً ومعافى والقضاء السوداني مهما اختلف الناس حول أنظمة الحكم ودرجة تأثيرها على الأحكام فإن القضاء السوداني ظل مفخرة لنا ويمثل ضمانة أساسية لحقوق الإنسان وطلب الخبير المستقل موائمة قانون الإجراءات الجنائية وقانون جهاز الأمن الوطني وقانون الصحافة والمطبوعات وقانون الحصانات بنصوص الاتفاقيات التي وقعت عليها الحكومة السودانية ومع العهد الدولي لحقوق الإنسان.. وقبل أكثر من عام ابتدر نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” مناقشات من خلال مجلس حقوق الإنسان بوزارة العدل ومفوضية حقوق الإنسان في محاولة لوضع خطة شاملة لإخراج السودان من نفق الإدانات والعقوبات.. وتم طرح سؤال حينذاك لماذا يتعرض السودان دوماً للإدانات والعقوبات أين تكمن المشكلة؟ وهل لدينا قوانين تتعارض مع حقوق الإنسان؟ أم هناك ممارسات تذهب بنا إلى جحيم العقوبات الدولية؟ وما هي الاتفاقيات التي ينتظر أن يوقع عليها السودان ولم يوقع بسبب تعارضها مع الشريعة الإسلامية؟ وما هي القوانين التي ينبغي تعديلها دون المساس بجوهر الشريعة؟ هذه الأسئلة كانت محور المناقشات التي جرت داخل القصر الجمهوري وفي مكتب الرجل الثالث في الدولة وهو يجمع وزارة العدل والخارجية وجهاز الأمن ووزارة الدفاع والداخلية والبرلمان ونقابة المحامين.. وقبل أن تقول تلك اللجنة كلمتها.. ماتت سريرياً؟ أو قتلت (بمرزبة) بعد أن أصابتها إصابة قاتلة.. انفض سامر تلك اللجنة وانتهت إلى اللاشئ وبقي الملف مفتوحاً.

ماذا يحدث في جنيف؟
في كل عام تتقدم الولايات المتحدة الأمريكية أو المجموعة الأوروبية بقرار لإعادة السودان مرة أخرى إلى الرقابة المباشرة بموجب البند الرابع كما كان الحال قبل سنوات من الآن وترفض الحكومة ذلك المشروع، ولما كان النظام الأساسي لمجلس حقوق الإنسان ينص على الصوت الواحد للدولة الواحدة تلوح الحكومة بالدخول في عملية تصويت وإخضاع القرار لأصوات الدول الأعضاء.. وتجد الولايات المتحدة والدول الأوروبية نفسها أمام معضلة حقيقية فإذا خضع المقترح الأمريكي أو الأوروبي للتصويت ربما سقط بتكتل الروس والصينيين والأفارقة وبعض الدول من أمريكا الجنوبية ولا تحتمل الولايات المتحدة الهزيمة أمام دولة صغيرة مثل السودان، كما أن كفة الحكومة السودانية هي الأخرى لا تشير لتحقيق انتصار مضمون على الولايات المتحدة ويتم اللجوء إلى الحلول الوسطى والتفاهمات وراء الحجرات الصامتة وتنتهي اجتماعات مجلس حقوق الإنسان بالإبقاء على الخبير المستقل ولكن إما بصلاحيات واسعة أو محددة وتعتقد الحكومة بأنها حققت انتصاراً دبلوماسياً على خصومها.. وكل المساومات والتفاوض يضطلع به الفريق القومي ممثلاً في البعثة الدائمة في جنيف والتي تم ترفيعها هذه الدورة ليصبح د. “مصطفى عثمان إسماعيل” هو قائدها بدلاً عن السفراء (التكنوقراط) العاديين و”مصطفى عثمان” سفير بمرتبة وزير خارجية سابق.. أما حاشية الوفود التي تذهب سنوياً إلى جنيف من منظمات طوعية وشبه حكومية هؤلاء لا جدوى من وجودهم مطلقاً لأنهم يمثلون فقط أعباء مالية على الخزانة العامة.. لا يكتبون تقارير يقرأها أحد ولا يتمتعون بثقة المجتمع المدني.. يحرقون أوراقهم بوقوفهم الخاطئ المفتقر إلى الكياسة وحسن التدبير الحكومة تعرف بوجود أخطاء في الممارسة وتجاوزات من منسوبيها ولكنها مستعدة لمعالجته إلا أن جيوش الأدعياء من البرلمانيين السابقين ورؤساء المنظمات الحكومية لا يقرون بما تقره الحكومة عن نفسها.. وبذلك يفتقدون سمات الحياد ومظان صدقية تقاريرهم التي يناجون بها أنفسهم في القاعات الفخيمة في جنيف.. ورغم ذلك يحجون سنوياً إلى جنيف بل بعضهم إذا تعارض الحج لمكة والمدينة مع الحج إلى جنيف لاختار الأخيرة لأنها فوائدها أكبر للجيوب المنتفخة بالمال.

تغيرات الإعلام
تم تسريب خبر مقصوداً في حد ذاته نشر يوم (الخميس) الماضي في الصحافة الورقية عن تغيرات مرتقبة في أجهزة الإعلام الحكومية والحزبية خلال الأيام القادمات ويقول نص الخبر المفخخ بدأت مشاورات داخل حزب المؤتمر الوطني حول عملية إحلال وإبدال واسعة تطال جميع أجهزة الإعلام الحكومية استعداداً لانتخابات 2020 وأفادت مصادر عليمة أن الحزب الحاكم بعد رفع أمانة الإعلام إلى قطاع أوكل رئاسته إلى وزير الموارد المائية والري والكهرباء “معتز موسى” في أغسطس الماضي بدأ في دراسة تغيرات وإعادة هيكلة لأجهزة الإعلام التابعة للدولة، والتي تشمل تلفزيون السودان والإذاعة القومية ووكالة السودان للأنباء (سونا) وقناة الشروق الفضائية وصحيفة الرأي العام وتشمل التغيرات مديري المؤسسات الإعلامية ومجالس إداراتها، إضافة إلى الدفع بدماء جديدة في الإدارات التي ستتبع لقطاع الإعلام داخل الحزب مثل دائرة الصحافة والنشر الإلكتروني وأبلغت مصادر “سودان تربيون” أن المؤتمر الوطني بالفعل بدأ مشاورات لاختيار قيادات جديدة لهذه المؤسسات وأمامه الآن العديد من الترشيحات التي يجري عليها عملية الجرح والتعديل.. الخ .. الخبر بتلك الصيغة تم تسريبه إلى (سودان تربيون) التي تصنف من المواقع الأقرب للمعارضة ومقرها في العاصمة الفرنسية باريس ويقودها ابن الوزير السابق “صلاح عبد الرحمن علي طه” المنتمي لحزب الأمة.. ولكن ينشط الموقع الإخباري في السودان وجنوب السودان ونشر الخبر في موقع (سودان تربيون) بمثابة رمي الدراب وسط الماء لأن تسريب الخبر من الجهة المستفيدة من نشره على نطاق واسع كما حدث الآن لأية صحيفة في الداخل من شأن ذلك كشفها وفضحها للأطراف تتنافس داخل منظومة الحزب الحاكم للظفر بالمغانم والمواقع في أجهزة إعلام الدولة والحزب والتنافس داخل القطاع الإعلامي أو قل الصراع راح ضحيته العديد من القيادات التي تسنمته في السنوات الماضية وآخرهم وزير الدولة الصامت “ياسر يوسف” الذي تم بناء راكوبة كبيرة فوق أمانته قطاع وأسندت إلى “معتز موسى” وزير الكهرباء الذي يزدحم جدول أعماله اليومي بقضايا الكهرباء والسدود وزيرو عطش والمفاوضات حول المياه مع دول حوض النيل والمعارك مع مصر حول سد النهضة الإثيوبي فكيف للرجل أن يخوض معارك قطاع الإعلام بين مراكز قوى مسنودة بالرجال والمؤسسات والنفوذ وبالنظر إلى الخبر فإنه يتحدث عن الأشخاص المنتظر توظيفهم والمؤسسات التي ينبغي أن يشملها التغيير والتعديل ولا يتحدث عن سياسات إعلامية وخطط وبرامج تنفذ هذه الأجهزة المتهالكة.. لأن الأشخاص والمناصب والمواقع في الدولة والحزب قبل تنفيذ الخطط والنهوض بالمؤسسات ولأن الدولة (الوظيفية) يصطرع منسوبوها بالمناكب في سبيل الحصول على كرسي سلطة ومال يجلب المنافع الذاتية للفرد قبل أن يقدم عملاً نافعاً.. والإعلام الحكومي أقعدت به عقلية (الحواشات) التي تسيطر عليه ومراكز القوى ما بين الحزب والحكومة والحركة الإسلامية.. وكلما لاحت فرصة وظيفة هرع هؤلاء إليها الطامعون.. مما أقعد إعلام الحكومة عن الركب وجعل القيادة بدلاً من طرح رؤية لعلاج أمراض التلفزيون نفكر في إدماج الصحف المستقلة عسى ولعل أن تجد لها خيطاً رفيعاً لتسيطر عليها.. وعقلية (الحواشات) تتدثر بعباءة القيادات العليا وتجعل من أحكام الرئيس ونائبه على المؤسسات الإعلامية بمثابة الحق المطلق والقول الفصل وتتخذها سكيناً لتنحر بها أعناق البعض من الرجال. إن “معتز موسى” يجد نفسه اليوم في وضع لا يحسد عليه يهرول إليه أصحاب المنافع والأغراض والحاجات الخاصة طمعاً في قناة أو صحيفة أو أمانة في الحزب والهرولة نحو “معتز موسى” تذهب بوقار البعض بينما مراكز القوى تدفعه دفعاً لاتخاذ قرارات متعجلة بتسكين مجموعات بعينها في الوظائف المتاحة.. من أجل السيطرة عليه وقد بدأ واضحاً من سياق الخبر المسرب أن الجهات التي بعثت به إلى الموقع الإلكتروني تسعى لإدانة الذين (سبقوا) “معتز موسى” في القطاع تمهيداً لمحو آثارهم وإقصائهم من كيكة الوظائف المتاحة الآن.. أما البرنامج والخطة فتلك لا تشكل أولويات في الوقت الراهن الأهم الفوز بالغنيمة.

المجهر السياسي