منوعات

عميد الفن أحمد المصطفى وضع بصمته في خارطة الفن السوداني وتغنى للوطن والمرأة والنيل كما مثل البلاد عندما نشر الأغنية بالخارج


يُعد واحداً من رموز الغناء السوداني ورقماً لا يمكن تجاوزه وسط جيل العمالقة، مثّل سفارة شعبية لبلاده، نظراً لتنقله بين مختلف دول العالم، ناشراً للأغنية السودانية من خلال الأعمال الفنية التي كان يقدمها في الرحلات العربية والأفريقية والأوروبية، الأمر الذي جعله ينال شهرة واسعة في الخارج.
إنه عميد الفن أحمد المصطفى الذي جاءت صرخة ميلاده في العام 1922م في قرية الدبيبة ونشأ بها، تربت أذنه على سماع المدائح النبوية والغناء الصوفي، وحفظ القرآن صغيرا وجوَّده، الشيء الذي كان له عظيم الأثر في طبيعة غنائه الذي أكثر ما يميزه الهدوء والصفاء، إضافة إلى جمال الصوت وعذوبته.
البداية من البقعة
جاء إلى أم درمان في أربعينيات القرن الماضي، ووجد الساحة الفنية تسيطر عليها أغنيات الحقيبة، فحاول أن يثبت أقدامه، فتطلب ذلك منه جهداً كبيراً وساعده الحظ في أن يلتقي بالثنائي سرور وكرومة اللذيْن شجعاه وقدما له الكثير من النصح الفني، حتى قدم لونيته الخاصة، غناء الحقيبة بلهجة فنية جديده تعتمد على أساسيات أغنية الحقيبة، وكان ذلك في حد ذاته قيمة فنية لا مثيل لها، وقال عنه البعض إنه سيكون سرور السودان الجديد، ولكنه صار فنان البلاد الخالد المتميز صاحب التجربة العميقة التي امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان قدم خلالها روائع من الغناء السوداني الأصيل، استلهم ألحانه من التراث السوداني بأغنيات تجاوزت 77 أغنية.
مسيرته الفنية
أُتيحت له من خلال عمله بشركة أبو العلا في الخرطوم فرصة الاستماع كثيراً إلى أسطوانات الأغنيات السودانية والمصرية واللبنانية، وتأثر في تلك الفترة بالموسيقار محمد عبد الوهاب ومن السودانيين تأثر بسرور وكرومة، وكان يردد أغنياتهم في حفلاته الخاصة، ثم تعلم العزف على آلة العود على يد العازف المصري (مشمش) وبعض أصدقائه في الوسط الفني، بدا أحمد المصطفي يشارك في أحياء حفلات المناسبات الاجتماعية وسمعه في إحدى تلك الحفلات حسين طه زكي أحد المسؤولين في الإذاعة آنذاك الذي أعجب بصوته، وطلب منه الحضور إلى دار الإذاعة في أم درمان للعمل على إجازة صوته كمطرب تبث الإذاعة أغنياته، وكانت أغنية هيام (عيوني هم السبب في أذاي) أول أغنية يتغنى بها في الإذاعة، وهي من ألحانه وكلمات الشاعر أحمد إبراهيم فلاح، السجلات الرسمية للإذاعة تقول إن الفنان أحمد المصطفى سجل للإذاعة رسميا 77 أغنية، لكن في الواقع أن ما قدمه من أغنيات كان يفوق هذا العدد بكثير، باعتبار أن هناك الكثير من الأغنيات التي تغنى بها ولم تسجل للإذاعة تسجيلا رسميا، وربما تكون هناك بعض الأغنيات قد ضاعت ولم يتم حصرها مع الـــ77 أغنية، إضافة إلى ذلك توجد له تسجلات غنائية نادرة من الأغنيات لحنها وغناها وسجلها إلى إذاعة ركن السودان سابقاً، وادي النيل حالياً، وهذه الأغنيات لا يوجد لها تسجيل في إذاعة أم درمان.
أبرز الأعمال
من الأغنيات التي تغنى بها نذكر (بنت النيل، ما أحلى ساعات اللقاء، وطن النجوم ويا ناسينا، الوسيم وأنا أم درمان، في سكون الليل ونحن في السودان، يا فتاة الوطن وسميري، حبيبي أنا فرحان بيك، وين يا ناس حبيب الروح، ها هو النيل حيالي)، وغيرها من الأعمال الجميلة التي نالت الرضا والقبول من قبل محبيه، أول أغنية ألفها الشاعر عوض الكريم القرشي لحنها وغناها أحمد المصطفى (يلاك يا عصفور)، آخر أغنية لحنها أغنية (نعيم دنياي) أواخر السبعينيات كلمات الشاعر محمد محمد صالح بركية، ولم يتم تسجليها للإذاعة.
نقيب الفنانين
يُعد أحمد المصطفى أول فنان سوداني يغني ويمثل في فيلم مصري مع محمد الكحلاوي والمطربة اللبنانية صباح، وكان ذلك في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وله معها أغنية مشتركة قاما بأدائها معاً، وهي أغنية (رحماك يا ملاك)، كما شارك مع سرور في فيلم سينمائي (قصي)، حيث كان من أوائل من سعوا إلى قيام تنظيم نقابي للفنانين والموسيقيين لحماية حقوقهم بما فيها الحقوق الفكرية ورعاية مصالحهم ورفع مستواهم الاجتماعي والفني، وكان أحد مؤسسي رابطة الفنانين السودانيين، وهي أول تنظيم للفنانين السودانيين يتحدث باسمهم مع الجهات الرسمية وفي مقدمتها الإذاعة، وذلك في ما يتعلق بالأجور وشروط العمل وغيرها، وعندما تحولت الرابطة إلى نقابة كان أحمد المصطفى رئيساً لها وأُعيد انتخابه لعدة دورات متتالية، وحمل لقب نقيب الفنانين.
رؤية السر قدور
قال الأستاذ الكبير السر أحمد قدور كان لأحمد المصطفى فضل كبير في الارتقاء بشخصية الفنان في نظر المجتمع الذي كان يضع المغنين في درجة أدنى ويتشكك في سلوكياتهم وأحمد المصطفى في هذا قام بنفس الدور الذي قام به موسيقار الشرق محمد عبد الوهاب بالنسبة لفن الغناء بمصر، وكذلك الدور الذي قام به عميد المسرح العربي يوسف وهبي في مجال المسرح، فأحمد المصطفى ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبي ارتفعوا بشخصية الفنان الاجتماعية من الازدراء إلى الاحترام.
مدرسة متفردة
ترتبط النقطة الأولى بالثانية على جانب كبير من الأهمية، وهي المتعلقة بسلوك أحمد المصطفى خلال قيامه بإحياء الحفلات، فقد كان منذ البداية رزيناً عفيفاً لا يصدر عنه ما يمكن أن يفسر بأنه خروج على أداب السلوك القويم، وكان لا يتناول خلال إقامته للحفلات إلا كوب الشاي، وقد نقل هذا السلوك إلى الفرقة التي تصاحبه، وبذلك كانت الأسر السودانية تراه جزءاً منها، أحمد المصطفى يجمع بين ثقافة القرية السودانية وحضارة المدينة الحديثة، وقد مزج كل هذا في شخصية فريده، فهو مزيج من أولاد المشايخ وأبناء الجيل الجديد المستنير يبدو ذلك ليس في سلوكه وأسلوب حياته فقط، ولكن كان أيضا في أسلوب غنائه الذي يجمع بين أصالة القرية ومعاصرة المدينة، ولذلك فإن صوت أحمد المصطفى الذي يجمع بين فنيات الغناء الشعبي وتطور الغناء الحديث كان قريباً لأبناء القرية كما هو قريب لأبناء المدينة، مما حقق له الشعبية الجارفة.
أغنيات للوطن
يُعد أحد رواد الرومانسية في الأغنية السودانية وقدَّم الأغنيات العامية الجيدة، وكذلك تغنى لكبار الشعراء العرب مثل إيليا أبو ماضي وأحمد رامي، وكان دقيقاً في اختياره لما يقدم من أغنيات لم يقدم أغنية تشوبها شائبة طوال تاريخه.
كان أحمد المصطفى إنساناً اجتماعياً يحمل في جنباته قلباً طيباً وحباً كبيراً للناس والوطن، ولا عجب في ذلك، فقد ظهر ذلك في اختياره لأغنياته الوطنية كالأغنية الشهيرة (نحن في السودان) وأغنية (أنا أم درمان)، وغنى أيضا للنيل الخالد (ها هو النيل حيالي) وغنى أيضا للمرأة السودانية (يا فتاة الوطن).

اليوم التالي.