زهير السراج

الحرامي والأسد والمرفعين


[ALIGN=CENTER]الحرامي والأسد والمرفعين !! [/ALIGN] * أذكر انني في فترة التسعينيات ناديت بتحويل كل المواطنين الى مسؤولين لحل مشاكلهم بشكل نهائي وفعال، فليس هنالك مسؤول يعاني، وبالتالي فإن تحويل المواطنين الى مسؤولين يحل مشكلة المواطنين ويريح أذن الحكومة من سماع أناتهم التي لا تتوقف.. وبصراحة فلقد استحلى المواطنون الانين والصراخ وصاروا لا يتوقفون عنهما مهما كانت الاحوال سيئة أو سيئة جدا أو ممعنة في السوء!!
* وعلى سبيل المثال إذا كانت الكهرباء قاطعة ثم جاءت ولم يعد هنالك مبرر للشكوى من الانقطاع تجد المواطنين يتحدثون في مجالسهم عن معاناتهم ابان فترة انقطاع الكهرباء، أو يتبنون معاناة جديدة مثل ارتفاع فاتورة الماء ويأخذون في الحديث عنها ولا يتركونها إلا وتجدهم يتحولون الى معاناة أخرى حتى صار الحديث عن المعاناة بالنسبة لهم مثل ادمان المخدرات للمدمنين .. إذا وجدوها واستخدموها زادت درجة ادمانهم، وإذا لم يجدوها انهارت اعصابهم وظهرت عليهم أعراض الانسحاب المفاجئ من المخدر وهكذا، وهو ما انقلب اليه حال جميع السودانيين فصاروا مدمنين للمعاناة او لأعراض الانسحاب منها !!
* أذكر اننى سمعت استاذنا الدكتور محمد عبدالله الريح الشهير بحساس محمد حساس يتحدث في ملتقى شعري ادبي فكري مترع بالسخرية والاشعار والأفكار الحلمنتيشية الساخرة بجامعة الخرطوم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عن بعض الظواهر التي يتميز بها السودانيون دون غيرهم من الشعوب ومنها ظاهرة أطلق عليها الدكتور اسم (منطقة الحرامي) التي تتمثل في سلوك أهل الحلة إزاء الحرامي الذي يسطو على منزل ليلا ولكنه لا يسرق شيئا بسبب استيقاظ أهل المنزل وهروبه وبرغم ذلك يصر الناس على مطاردته للقبض عليه والانتقام منه بقطع أذنيه أو فقء عينيه أو قتله .. (عكس ما يحدث في هذا الزمان – وهذا الكلام من عندي – الذى يسرق فيه الحرامي بجرأة شديدة ان لم يوقظ أهل المنزل من النوم ويطلب منهم اخراج النقود والاشياء القيمة وربما يقضي عليهم، ويقطع أوصالهم ويرميها في أقرب كوشة غير عابئ بما يحدث بعد ذلك، متأثرا في ذلك بما حوله من مظاهر وظواهر، وبعد أن كان الحرامية يخافون من الناس صار الناس يخافون من الحرامية) !!
* يقول الدكتور ان السودانيين لا يتركون الحرامي في حاله حتى لو لم يسرق شيئا بل يطاردونه لمسافة بعيدة خارج المنزل فلو قبضوا عليه اذاقوه ألوانا من العذاب والعقاب قبل ان يأتيه الفرج بوصول رجال الشرطة، ويظل هذا الحدث مسيطرا على مجالس انسهم زمنا طويلا وقد يؤرخون به احداثهم المهمة مثل مناسبات الزواج أو الوفاة او الولادة حيث تسمع على ألسنة أهل الحي أشياء مثل (فاطمة اتولدت تاني يوم من الحرامي الجه لي ناس عشة) أو (عرس محمد كان سابعة يوم الحرامي الجه لي ناس عشة) وأشياء من هذا القبيل !!
* وحتى لو لم يفلح أهل الحي في القبض على الحرامي فانه يظل المادة المفضلة للحديث على غيرها من المواد بدءا من الليلة التي حاول فيها السطو على احد المنازل حتى صباح اليوم التالي والى ايام عديدة بعد ذلك !!
* ويقارن الدكتور هذا السلوك البشري السوداني – في محاولة ساخرة لانتقاده – بسلوك الأسود عندما يعتدي أسد على منطقة أسد أخرى فيقوم الأخير بمطاردته حتى يخرجه من منطقة نفوذه وعند ذاك تتوقف المطاردة وينتهي كل شئ ولا يتمادى الأسد المطارد (بكسر الراء) في المطاردة كما يفعل السودانيون إلا عندما يختطف الأسد المعتدي فريسة من منطقته فتستمر المطاردة حتى يسترجعها صاحب المنطقة او يفلح المعتدي في الهروب بها !! وبالطبع ليس هنالك مجال لعقد مجالس للأنس والحديث بين الأسود حول هذا الحدث إذ أن كل واحد يكون مشغولا في حاله ومعايشه وحماية منطقة نفوذه !!
* باختصار شديد فان الدكتور أراد أن يقول في ذلك الوقت أن السودانيين قليلو شغلة وعندهم وقت فراغ كبير لدرجة أن محاولة حرامي فاشل للسطو على احد منازل الحى تصبح موضع حديث لسنوات طويلة ، وربما تتفرع منها قصص وحكايات وشائعات كثيرة جدا في ذلك الزمان !!
* إذا اعدنا قراءة هذه الحكاية الآن في هذا الزمن نجدها قد انعكست تماما فالجميع صار مشغولا بهمومه ومشاكله اليومية، كما أن الحرامية لا يعطون الفرصة لأحد كي يتحدث، وقبل ان يفتح احد فمه يكون في خبر كان، مع الاخذ في الاعتبار ان (الحرمنة) – إن صح التعبير – صارت لها اشكال وانواع عديدة، وقد تجد ( حرامي) يعيش بين الناس في أمن وأمان ويتمتع بثروة طائلة ونفوذ كبير ولا يجروء الناس على الحديث عنه الا باحترام كبير، بل ويسعى البعض إليه للاستفادة من نفوذه !!
* إلا أن السودانيين بما اشتهروا به من اخلاص نادر لبعض تقاليدهم وعاداتهم لم يتركوا تماما (ظاهرة منطقة الحرامي) التي تحورت بفعل عوامل البيئة والزمن الى (منطقة المعاناة) الممتدة على امتداد الزمان والمكان السوداني، فما من مكان أو زمان وجد فيه سوداني إلا وتجسدت فيه المعاناة بكل مظاهرها وصفاتها المعروفة من أنين وشكوى مستمرة وإكتئاب واحباط .. إلخ، حتى صارت المعاناة والمواطن السودانى شيئا واحدا لا ينفصل !!
* الحل الوحيد لهذه المعاناة – كما أسلفت – هو أن يتحول هذا المواطن الى مسؤول حتى لو متحصل رسوم في محلية، فتختفي تماما كل مشاكل الناس وهمومهم وترتاح الحكومة وتتفرغ للقضايا القومية الكبيرة، وكان الله في عون حكومتنا التى ابتلاها الله بشعب جاحد لا يحسن شيئا سوى الشكوى وتوجيه الانتقادات والحديث عن المعاناة حتى لو أصبحت أثرا بعد عين وتحول الأسد الى مرفعين !!

صحيفة السوداني
drzoheirali@yahoo.com
25 ديسمبر ،2009


تعليق واحد

  1. ذكرتني صديقي القال اتعودت على الملاريا والايام الما يكون عندي فيها ملاريا بكون عياااااااان