الطاهر ساتي

تفكير (اتجاه واحد)!


تفكير (اتجاه واحد)!
** ومن وقائع الحال العام، كنا بأقسام التدريب عندما رافقنا مسؤولا بولاية الخرطوم قبل كذا سنة إلى منطقة الرميلة، وكانت من المناطق المتأثرة بفضيان ذاك العام.. وجدنا الجزء الجنوبي – والمجاور لحي اللاماب – مغموراً بالكامل.. وكانت جدران المنازل وأشجار النيم وعارضات الملعب، تعكس للمشاهد بأن تحت البحيرة – التي نقف على شاطئها – حياة لم تعد إلا دماراً.. وقف مسؤولنا على شاطئ البحيرة متأملاً سطحها وما على السطح من بعض أثاثات المتضررين، ثم التفت إلينا قائلاً: (والله ياجماعة رب ضارة نافعة، المكان بينفع يكون حوض سباحة مفتوح)، قالها هكذا ثم سألنا (ولا رايكم شنو؟).. لم يكن لنا حق الدهشة والاستنكار، فالسلطة كانت طلقة وذات شوكة وتحذير فحواه (من أراد أن تثكله أمه، فليغلق متجره).. ولذلك آثرنا السلامة وقابلنا فكرة تحويل شوارع الناس وميادينهم إلى حوض سباحة مفتوح بهمهمة من شاكلة: (والله فكرة كويسة)..!!
** لاحقاً، أثبتت الأيام أن كل المشاريع التي تم تنفيذها في تلك المرحلة – وبمثل تلك الأفكار الجهنمية – غير صالحة للاستعمال الآدمي.. انهارت بعضها كما الطرق التي تم رصفها أكثر من مرة، والبعض الآخر آيل للانهيار كما سندس العاجز عن مد أسواق الخرطوم بجوال بصل.. وكذلك يعتبر مشروع ترعتي كنانة والرهد أوضح مثال للمشاريع التي يتم تنفيذها بخطة (ياخ جيب طوريتك واحفر هنا).. ولا تزال في ذاكرة الناس تلك المشاهد وخلفيتها ذات الأغاني الوطنية والموسيقى الحماسية، وهي تعكس عبر التلفاز جمعاً غفيرا من ذوي اللحى والجلباب يحفرون الأرض هناك كيفما اتفقت معاولهم، أو هكذا بدأ – وانتهى – مشروع ترعتي كنانة والرهد، وليس في الأمر عجب..!!
** نعم في كل بلاد الدنيا والعالمين، التفكير يسبق التنفيذ.. ولكن في بلادنا – بسم الله وما شاء الله وعيني باردة – يتم تتفيذ المشروع – أو التجربة – أولاً، ثم تأتي مرحلة التفكير في دراسة الجدوى لاحقاً، ولذلك يكون العدم هو الحصاد دائماً.. وعلى سبيل مثال آخر، أي بجانب تلك الأمثلة التاريخية، نقرأ الخبر التالي.. كشفت الإدارة العامة للمرور عن ترتيبات لتخصيص طريق (الخرطوم/ مدني) كاتجاه واحد، بحيث يكون المسار ذهاباً، على أن يتم استخدام الطريق الشرقي للإياب، وعقدت الإدارة اجتماعاً مع غرفة النقل لمناقشة المقترح الذي سيتم تنفيذه عقب رفع توصيات اللجنة التي تم تشكيلها لتنظر في هذا الشأن، هكذا الخبر.. فلنتأمل أوجه المؤسسية والتخطيط في الخبر: شرعت إدارة المرور في عمل ترتيبات تجعل طريق مدني (اتجاه واحد)، ثم عقدت اجتماعاً مع غرفة النقل لتناقش هذا المقترح الموصوف بـ(سيتم تنفيذه)، وبعد كل هذا: تم تشكيل لجنة لتنظر في الأمر..!!
** تلك مراحل المؤسسية والتخطيط ، في حد فاهم حاجة؟.. مقترح، ولكن سوف يتم تنفيذه، ثم تشكيل لجنة للنظر في (المقترح المحكوم عليه بالتنفيذ).. المهم، مثل هذا القرار – في بلاد الدنيا والعالمين طبعاً لا تتخذه إدارة المرور وحدها، ولا غرفة النقل أيضاً، بل يجب أن يُخضع لآراء خبراء الاقتصاد والهندسة والتخطيط، وكذلك يخضع للجهات المسؤولة عن القاطنين على طول الطريق، مجالس تشريعية كانت أو محليات.. طريق (الخرطوم/ مدني)، لا يربط مدني فقط بالخرطوم، بحيث يكون مساره ذهاباً فقط (بالسهولة دي)، بل على جانبي هذا الطريق حياة كاملة بكل أحيائها وقراها وشركاتها ومصانعها ومزارعها، وتلك الحياة هي التي تتأثر – سلباً وإيجاباً – بمثل هذا القرار.. وتخطئ إدارة المرور لو تجاهلت آراء كل الجهات ذات الصلة بحياة القاطنين على جانبي هذا الطريق، قبل تنفيذ هذا القرار.. لست مع الفكرة ولا ضدها، بل مع إخضاع الفكرة لنقاش واسع ويشارك فيه كل ذوي الخبرة والاختصاص حتى يطمئن الجميع على جدواها.. وليس مطمئناً أن يجتمع مدير المرور مع مدير غرفة النقل ثم يخرج للناس قائلاً: (طريق مدني ح يكون اتجاه واحد)..!!

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]