مقالات متنوعة

طفولة لم تكتمل


‫إستراحة الجمعة
(طفولة لم تكتمل)
لحظات الصفاء نادرة جدا…
نادرة مثل نسمة باردة تمر بموقف الحافلات الساعة الرابعة عصرا ، أو كرحمة تنزل على قلب مسئول حكومي فيقرر التوبة والإستقالة … المهم إنها نادرة وكفى وإذا سنحت لك فأغتنمها وعشها … عش
ها بكل حذافيرها وثوانيها ولا تشغل بالك بمتى تنتهى … وأنا كنت أعيش إحدى لحظات الصفاء هذه مع خطيبتي سوسن … قد تندهش حين تقرأ هذا الكلام عن إنعدام الصفاء بين خطيبين من المفترض إنهما سيتزوجان وقريبا ، ولكن إندهاشك يا صديقي يدل على إن حلقات كثيرة قد فاتتك من هذا المسلسل فأرجع لتقرأها لتعرف من هو أحمد … ومن هي سوسن ؟ .. ثم إننا وكإتفاق سري غير معلن قررنا أنا نكمل كل أنواع المشاكل والنكد و العقبات قبل الزواج لكي نعيش بعدها حياة هادئة بإذن الله .. فكرة غريبة أليس كذلك ؟ … ماذا كنت أقول في البداية ؟ نعم كنت أتكلم عن لحظات الصفاء وكنت في هذه اللحظة أتمشى مع سوسن تحت ظلال أشجار وارفة ونحن نحلم بصوت عال :
– شوفي ، أنا دلع للأولاد ما بينفع معاي بعدين .. الشفع ديل لازم ينجلدو عشان يتأدبو
– ينجلدو بدون سبب ؟ إنت عندك عقدة وعايز تفرغها فيهم ؟
– أولادي وأنا حر فيهم
ومررنا تحت شجرة (دقن الباشا ) .. تلك الشجرة التي لها أزهار وبرية ناعمة ورائحة نفاذة مميزة ، قالت لي سوسن بفرح وهي تشير للشجرة :
– الله يا أحمد أنا بحب الريحة بتاعة الشجرة دي شديد ، بتذكرني بالمدرسة زمان
وبدون تردد وكخطيب مخلص وثبت أتسلق الشجرة وألتقطت وردة وقدمتها لها ، فنظرت لي بضيق قائلة :
– إنت فعلا عندك طفولة ما كملتها .. نحن في الشارع
وطارت لحظة الصفاء التي دامت ربع ساعة … لو قالت لي إنني قرد ذو ذيل لغفرت لها ولكن أن تصفني بالطفولة فهذا شئ لا أحتمله مطلقا ، لذلك أخذت الوردة من يدها وصعدت الشجرة من جديدة ووضعتها في فرعها ونزلت بوجه مكفهر ، فهزت رأسها قائلة :
– وشكلك زعلت من كلامي وده يدل فعلا على إنك ما كملت طفولتك
وحين رجعت للبيت كنت متعكر المزاج ، ليس لأنها قالت لي ذلك بل لأنه فعلا .. أحم .. أنا عندي طفولة لم أكملها .. لذلك عقدت العزم على إكمالها اليوم .. ماالذي لم أكمله في طفولتي ويحتاج لإكمال ؟ أحضرت جهاز اللابتوب وفتحت موقع (يوتيوب ) وبدأت في تحميل مافاتني قديما بسبب قطوعات الكهرباء… هناك الحلقة الأخيرة من مسلسل ( مايا في رحلة الأحلام ) لم أشاهدها لأعرف ماذا فعلت مايا مع الساحرة الشريرة ( شيشة ) .. هل كان إسمها شيشة ؟ .. هناك حلقات لم أشاهدها من رامي الصياد الصغير ومباراة فريق كابتن ماجد مع منتخب البرازيل التي أستغرقت عشر حلقات .. هناك أيضا الحلقة الأخيرة من (فيردي ) النملة وهل تزوج جفونة أم لا ؟ لا أدري كيف تتزوج نملة من صرصور ولكني شاهدته .. ماذا أيضا ؟ نعم هناك من صديقنا سنبل والنمر المقنع وفولترون والكوندور الذهبي يجب مشاهدتها … ماذا فاتني أيضا؟ معظم أطفال جيلي لعبوا ( سوبر ماريو ) إلا أنا ، أين أنت يا ماريو .. تحميل .. معظم الأطفال تشاجروا في المدرسة إلا أنا كنت هادئا مسالما حتى إن إبراهيم جاري وزميلي قديما ضربني ذات يوم ولم أردها له ، لذلك ذهبت له في بيتهم فرحب بي ، ولكني قلت له بوضوح :
– ماتفهمني غلط يا هيما ، المسألة مسألة كرامة .. إنت مش ضربتني زمان ؟
وبعد لحظات كنت أغادر بيتهم جريا وهو خلفي يمسك ظهره متألما بعد أن خبطه كما خبطني … ماذا أيضا ؟ كان الأطفال يخيفون أخواتهم بمسك سحلية أو ضب ميت والتلويح به ، إشمعنى أنا ؟ لذلك من فضلكم لا تسألوني عن سبب صراخ أختي هي وبناتها ، فأنا تعبت جدا حتى قتلت ذلك الضب … كل أطفال جيلي كانوا يأكلون العرديب بالشطة إشمعنى أنا ؟ وأبتعت ربع ملوة عرديب وشطة وفي النهاية وقفت طويلا أما واجهة الصيدلية محدقا في عبوات البامبرز وال(سيريلاك ) .. لا الموضوع لم يصل لهذه الدرجة بعد لأن جيلي لم يكن يعرف البامبرز بل كانوا يلفوننا كالرغيف في أي بشكير أو بطانية وبرية … وبعد أن أكملت كل هذه الإستعدادات قمت بالخطوة الأخيرة وذهبت للجمري صاحب العماري وأشتريت كيس كبير من التمباك وذهبت اليوم التالي لمقابلة سوسن .. كان وجهي مكفهرا وحازما ، فقالت لي ضاحكة :
– إنت لسه زعلان من حركة أمس ولا شنو ؟
أخرجت كيس التمباك ووضعت سفة كبيرة على شفتي العليا وسط نظراتها المذهولة .. شعرت بالطعم الحارق المدوخ يغزو فمي ولكني تجاهلته وقلت لها بحدة وصرامة :
– إحترمي نفسك يا مرة نحن في الشارع
نظرت لي برعب وفزع ولكني إبتسمت راضيا عن نفسي وعن سفتي .. لقد أرادت رجلا كاملا بدون ذرة طفولة ..
وكان لها ما أرادت .

الكاتب : د/ حامد موسى بشير