جعفر عباس

«بلى» أفضل من نعم أو لا

[JUSTIFY]
«بلى» أفضل من نعم أو لا

بيني وبين مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة التربية السعودية مودة واحترام متبادل، وهي في تقديري من أنجح المجلات المتخصصة في العالم العربي، وسر نجاحها أنها أفلتت تحت قيادة الأستاذ زياد الدريس (حاليا في اليونسكو ويكتب عمودا أسبوعيا في «الحياة») من «ثقل الدم» الذي يلازم المطبوعات التي تصدر عن الأجهزة الحكومية، وقبل سنوات استكتبتني «المعرفة» حول «لا» فقلت فيما قلت: إن أدبيات الصحافة العربية تعتبر قول «لا» شجاعة، مع ان قولة «نعم» قد تكون أصعب وأوخم عاقبة من قولة «لا»،.. وحياة أمة الأعراب زاخرة بلاءات «زي قلِّتها»، لاءات كلها فشوش، أثبتت الوقائع والممارسات أنها كانت «نَعَمات» مبطنة، فعند الترجمة على ارض الواقع صارت لاءات الخرطوم الشهيرة: نعم للاعتراف بإسرائيل.. نعم للتفاوض معها.. نعم للصلح.. نعم للشلح.. نعم للبوس، وقبل سنوات: نعم لبوش!!
العربي العاقل لا يقول لا أو نعم، بل يقول كلاما مبهما مثل: نشوف.. يصير خير.. اللي تشوفه… أنت تقرر ونحن وراءك.. أنت كلك نظر.. وقول «لا» ليس بالضرورة دليل شجاعة، فالطفل في البيت يتسلح بلا النافية للتهرب من العقوبة: لا لم أضرب فطومة.. لا لم يعطونا واجبات مدرسية لأن جميع المدرسين ماتوا.. لا لم تعطني ورقة فئة المائة ريال، بل كانت ورقة فئة 58 ريالا!! وفي كل دولة عربية مسيلمة مهمته استخدام «لا»: لا صحة لما يردده الحاقدون والخونة.. لا وجود لخلل في الموازنة.. لا يوجد عندنا معارضة.
وبالتأكيد فإن «لا» تنم في مواقف كثيرة عن شجاعة وثبات على المبدأ، فمثلا قد تطلب منك زوجتك ألف دولار لشراء دبوس مصنوع من الألمنيوم، فتقول لها: لا.. ما يجوز.. خذي خمسة آلاف واشتري لنفسك دبوسا من البلاتين (أنت طبعا تتمنى لو أنه من البلوتونيوم المخصب)، والذين يقولون «لا» في الشؤون السياسية لا يعمرون طويلا، ولا ينجحون في «تكوين أنفسهم»، بينما النعمنجية، يصعدون في السلم الاجتماعي قفزا وتتحسن أوضاعهم المالية والنفسية والجنسية بعكس الفئة الأولى التي يكون المنتمون إليها من مستحقي الزكاة والفياغرا!! وفي مرحلة الشباب «عملت فيها بطل» وعاديت نظام حكم المشير جعفر نميري، وإذا قالت حكومته نحن عرب قلت: لا نحن تتر، وإذا قال ان السودان بلد إفريقي صحت: لا نحن بلد أوربي وكان اسم بلدنا أصلاً السويد، ولكن ونتيجة للفساد والاختلاسات طار الألف والنون من آخر الاسم، وتسلل حرف الياء العليل ما بين الواو والدال،.. وهكذا لم يجد نميري مناصا من الزج بي في السجن، واقتادوني إلى مجموعة من الزنازين وناولوني «قصرية» وهي وعاء أبيض لا صلة له بالقصور أو حتى البيوت الشعبية، لأنه مخصص لقضاء الحاجة، وشعرت عندها بالمهانة، ولولا بقية من حياء لبعثت لنميري ببرقية أقول: معليش يا ريس.. انت الكبير وعليك تحمل طيش الصغير.. أؤيدك في المنشط والمكره.. بس الله يخليك بلاش القصرية! وبسبب تلك القصرية لم أكتب كثيرا عن تجربتي في السجن وضاعت علي «بطولة» كنت أحسب أنني استحقها. ونصيحتي لك هي عدم قول لا او نعم، استخدم كلمة «بلى» التي فيها شيء من نعم وشيء من لا، وإذا سألك رئيسك المباشر ما إذا كنت توافقه الرأي،.. ورغم اقتناعك بأن رأيه في منتهى السخف والبله، قل له بصوت جهوري «بلى»، وقل في سرك: بلى (بلاء) ياخدك ويريحنا منك!!..
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]