تحقيقات وتقارير

محمدية.. بسمة وكمان

لم يضع محمد عبد الله أبكر، في أقصى توقعاته، وأحلامه، وهو يتسلّم آلة كمان، من صديقه مدني محمد طاهر»، الموظف ببنك باركليز فرع بورتسودان، لم يضع في تلك التوقعات أنّ هذه الآلة لن تُصاحبه كل سنوات عمره المقبلة، فقط، بل وستفتح له أكبر أبواب الشهرةِ، والإبداع، والقبول لدى الناس. للدرجة التي أصبح فيها أشهر عازفي آلة الكمان السودانيين في العقود الأربعة الفائتة. وللدرجة التي لم تخلُ فيها أية فرقةٍ موسيقيةٍ، لأي فنانٍ سوداني من محمّديةّ، وهو جالسٌ أقصى يمين الصف الأول، وعلى كتفه آلة الكمان التي استحالت إلى جزء من جسده، وللدرجة التي لا يكتملُ فيها مزاج المشاهد لأي فنانٍ يغني، من غير أنْ يكون محمديّة ضمن الفرقة الموسيقية التي تُنفذ هذا العمل أو ذاك. ثم يكتمل المشهد كله بابتسامةٍ واسعة من محمدية، تملأُ وجهه العريض، كلما غشيتْ وجهه الكاميرا، وهو ينفردُ بتنفيذ صولو في أغنيةٍ ما.
مزمار وعود
ولد محمدية، بحي ديم جابر في مدينة بورتسودان، في العام 1943م. وربطته ببورتسودان علاقة متينة، درس الابتدائي والثانوي بمدينة بورتسودان ولعب كل الألعاب الشعبية التي يلعبها الصغار في تلك المنطقة، ثم بعدها قام بمساعدة والده الذي كان يعمل في مجال البناء، في بداية حياته مارس بعض المهن التي فتحت أفقه وبدأ يتطلع إلى الحياة بمنظور آخر.
بدأ متعلقّاً بكرة القدم بداية حياته، بالرغم من براعته في العزف على آلتي المزمار والعود، وعلى رأي مجايليه، فقد كان مهاجماً، من الممكن أنْ يكون له مستقبل في لعبة كرة القدم، لكنه آثر أنْ يتفرّغ للموسيقى، وكوّن بصُحبة آخرين فرقةً موسيقيةً بمدينة بورتسودان، كانت تعزف خلف الكثير من فناني بورتسودان، وخلف الفنانين الذين يأتون لإقامة حفلاتٍ في بورتسودان. ومن الذين كان يعزف لهم محمدية، الفنان إبراهيم أبو ديّة، عندما كان يغني منفرداً، ولم يلتقِ وقتها بـالسني الضوّي، ليكوّنا ثنائي العاصمة.
بعدها بسنواتٍ، غادر محمدية بورتسودان؛ ليقيم مع خاله بمدينة أم درمان، وهو لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره كثيراً، حيث عمل كنجّار مساعد لابن خالته صانع الأعواد محمد نور. ومن ورشة صناعة وصيانة الأعواد لابن خاله، استطاع التعرّف على الكثير من الفنانين والموسيقيين، الذين يغشون ورشته. وهو ما هيّأ له من بعد التعرف على كثيرين منهم، وتقوية علاقته بهم، وبالأخص الموسيقار علاء الدين حمزة، الذي أوصاه بالالتحاق بالفرقة الموسيقية للإذاعة والتلفزيون، في العام 1962م.
ذاكرة ألحان فوتوغرافية
يتميّز محمديّة بذاكرة فوتوغرافية في حفظ الألحان الكثيرة للفنانين السودانيين. أضاف إليها حبه الكبير لهذه الألحان، ثم مصاحبته لعددٍ مهول من الفنانين السودانيين، وعزفه خلفهم. ولو قدّر لأحد الباحثين أنْ يُحصي عدد الفنانين الذين عزف خلفهم محمدية، من جيل الرواد، ومروراً بأجيال الوسط، وانتهاءً بجيل الشباب، وناشئة الفنانين ببرنامج أغاني وأغاني؛ لو قدّر لأحد الباحثين إحصاءهم لوصل رقم الذين عزف خلفهم محمدية إلى الآلاف!
ما ساهم في تميّز محمدية، في عزفه، عوامل كثيرة، يجملها في افتتانه في صباه بموسيقى وألحان المصريين فريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وكل الأغنيات التي تبثها السينما. وهو ما ساعده مستقبلاً عند التحاقه بالدراسة ضمن أول دفعةٍ بمعهد الموسيقى والمسرح بالسودان. ولدى ابتعاثه بعد ذلك في منحةٍ دراسية بالقاهرة لدراسة الموسيقى، أحرز محمدية درجاتٍ عالية أهلته من بعد لنيل الدبلوما ثلاث سنوات من معهد الكونسترفتوار. وهو من معاهد تدريس الموسيقى الكبيرة والشهيرة بالوطن العربي.
رجل عصامي
كل هذه الميزات، أهّلتْ محمدية ليكون الإضافة الحقيقية والمميزة للجيل الأول من عازفي الكمان في السودان: السر عبد الله، بدر التهامي، على ميرغني، علاء الدين الخوّاض، ومحمد عبد الله عربي. وبالرغم من كونه لم يُعرفْ عنه تجربةً في التلحين؛ إلا أنّ صولاته، وبراعته في عزفه المنفرد في الأغنيات السودانية الكبيرة ظاهر، بدءاً من الطير المهاجر. ويبرر عدم محاولاته في التلحين لوجود عباقرةً في التلحين لا يستطيع مجاراتهم وقتها.
عبد القادر سالم، المغني، ورئيس اتحاد الفنانين السابق، وصف الموسيقار محمدية بـ العُصامي، مشيراً إلى بدايته العزف على آلة الكمان في الخمسينيات. وأضاف في حديثه لـ (حكايات) أنّ ما صقل موهبة محمدية عمله مع أفضل عازفي الكمان في ذلك الوقت، أمثال: عبد الله عربي، وعبد الفتاح الله جابو، وبدر التهامي، وغيرهم. هذا بالإضافة إلى كثرة تمارينه لوحده على آلة الكمان، مما أهله ليكون أحد العازفين المهمين في فرقة الإذاعة السودانية. ويواصل د. عبد القادر سالم: محمدية أظهر براعته في عزفه على آلة الكمان عبر أعماله الخالدة وهو الموسيقي الوحيد فيما يعرف – الذي يتمرن (5) ساعات يومياً لكي يرتقي ويتطور.
ويذكر عبد القادر سالم أنّ محمدية هو من أسس الفرقة الماسية السودانية، وكذلك فرقة النجوم الموسيقية، والأخيرة استطاعت أنْ تتواصل مع جميع الفنانين. من لدن الرواد، وحتى الجيل الجديد، ومغني أغاني وأغاني. ويشير ذلك حسب رأي عبد القادر سالم- إلى تواضع شديد في سلوك الموسيقار محمدية. ويختم بأنّه على وجه الخصوص يكون مهتماً دوماً أنْ يرافقه محمدية ضمن فرقته الموسيقية في كل مشاركاته في الدول الأوروبية، لحماسته في الأداء، وحسن تشريفه في المشاركة باسم السودان.
صولات محمدية الموسيقية
تواضع الموسيقار محمدية، وحبه التواصل بين الأجيال الفنية المختلفة، واحد من السلوكيات الجميلة والإنسانية التي عُرفت عنه، وهو ما أكده الفنان مجذوب أونسة، الذي دلّل لـ حكايات على هذه الصفات الإنسانية بمشاركته الدائمة في برامج غنائية لناشئة الفنانين، مما يعطي العمل الذي يقدمه رونقاً خاصة، وأشار أونسة إلى أنّه يحسُ براحةٍ عميقةٍ ومحمدية يكون ضمن الفرقة الموسيقية التي تُنفّذ له أعماله، كان ذلك في الإذاعة أو التلفزيون.
وأشار مجذوب إلى مساهمة الموسيقار محمدية الفعالة في كل الأعمال التي يشارك في تنفيذها، ويرجع ذلك إلى عبقريته وأدائيته الجميلة والمميزة. مضيفاً أنّ محمدية من قلائل الذين يؤلفون الصولات الموسيقية في النصوص الغنائية، ومرد ذلك إلى إحساسه العالي، وقدرته على تذوق الأعمال الفنية. ويضرب المثل في الألحان التي نفّذها لكبار الفنانين أمثال وردي.
تقاسيم مرتجلة
من ناحيته اعتبر الملحن، وأستاذ الموسيقى، د. الماحي سليمان، اعتبر محمدية من رواد الجيل الثاني في آلة الكمان، مضيفاً: محمدية من الذين استطاعوا (سودنة) آلة الكمان، وبخبرته الطويلة كذلك استطاع أنْ يضيف لها أسلوباً نغمياً خاصاً به، بل من الذين يستخدمون أسلوب التقاسيم المرتجلة على آلة الكمان. وهو أسلوب – في رأيه – يحتاج لخيال موسيقي واسع كان محمدية يجيده بلغة موسيقية خاصة. ويختم الماحي حديثه لـ حكايات بأنّ محمدية من أوائل الذين درسوا العلوم الموسيقية، ومن الدفعات الأولى التي تخرّجت من كلية الموسيقي.

حكايات-تقرير: مصعب عبد الله