العرب والخرافة الأمريكية

لا أريد موافقة المفكر الراحل الكبير محمد عابد الجابري في استخدام مصطلح العقل العربي لإشكالية الافتراضات الكامنة في الادعاء بوجود عقل واحد يتشارك فيه كل العرب من سلف وخلف. ولكن مع ذلك لا يمكن إلا أن يلاحظ المراقب بكثير من الحيرة تفشي المعتقدات الخرافية بين العرب، بما في ذلك (بل خصوصاً) بين كثير من الحداثيين. ولعل أكبر الخرافات المعاصرة التي يتداولها العرب هي الإيمان بأن لأمريكا قدرات خارقة، بحيث أنه لا يحدث شيء في العالم العربي إلا وتكون أمريكا وراءه.
[CENTER](2)[/CENTER]اجتراح امريكا للمعجزات يشمل أحياناً إنجاز الشيء ونقيضه. فهي تدعم مبارك، ثم تسقطه، وتدعم الإخوان وتمول الانقلاب ضد مرسي، وهي من دبر الثورة ضد الاسد، ولكنها أيضاً تتآمر لإبقائه في السلطة. أمريكا أيضاً تمالىء إسرائيل في محاربة إيران والكيد لها، ولكنها تتآمر لتحالف جديد مع إيران على حساب حلفائها العرب.
[CENTER](3)[/CENTER]كمثل كل العقائد الراسخة، فإن لهذه الديانة كهنتها وعرافيها من قراء الطالع والكف والفنجان. فإذا رتبت قناة تلفزيونية أمريكية مقابلة مع بشار الأسد، انبرى قراء الطالع ليقولوا إن هذه إمارة بأن آلهة الكابيتول رضيت عن السفاح وغفرت ذنوبه. وإذا نشرت النيويورك تايمز تصريحات الرئيس الإيراني روحاني بطريقة معينة، كانت هذه آية بأن البركات ستنزل على طهران، وأن خصوم آيات الله في الرياض وابوظبي سينالهم غضب وإبعاد.
[CENTER](4)[/CENTER]استمعت إلى أحد المحللين قبل أيام قليلة وهو يجتهد في تفسير تحول موقف تركيا من النظام السوري من قبول يقترب من التحالف إلى عداء صارخ، قائلاً: إن النظام السوري لم يغير وجهته السياسية خلال هذه الفترة ولم يقع حدث كبير يفسر مثل هذا التغيير. التفسير الوحيد لـ انقلاب تركيا هو أن صفقة سرية عقدت بين أمريكا ومرسي واردوغان لإعادة تشكيل المنطقة! قلت لصاحبنا: ألا تعتقد أن قتل عشرات الآلاف من السوريين وتدمير نصف سوريا حدثاً كبيراً يبرر تغيير الموقف منه؟ أجاب: إن سوريا فعلت في حماة وغيرها قبل ذلك ما لا يقل عن ذلك.
[CENTER](5)[/CENTER]قلت للصديق إياه لقد انقلبنا نحن على النظام السوداني الحالي، رغم شعاراته الإسلامية ورغم أن بعض قادته كانوا أصدقاء نثق بهم، وذلك عندما ارتكب تجاوزات لم تقبلها ضمائرنا، وكانت اقل بكثير مما يفعله النظام السوري اليوم. وهناك كثيرون من أنصار بشار وحزب البعث، بمن فيهم رئيس وزرائه السابق وبعض كبار قادة جيشه، قرروا التخلي عن الأسد بعد أن فاقت جرائمه كل حدود الاحتمال. فلماذا تقف تركيا مع نظام خسر نفسه وبعض أخلص أنصاره، ولماذا نحتاج لأساطير عن صفقات سرية لتبرير ما هو أوضح من الشمس؟ إن كل العالم يقف ضد بشار، وما يحتاج إلى تفسير هو الوقوقف معه، لا الوقوف ضد فظائعه.
[CENTER](6)[/CENTER]الحالة السودانية، إضافة إلى ذلك، تمثل أكبر تحد لخرافة القدرة الأمريكية على اجتراح الخوارق. ففي عام 1985، تفجرت المظاهرات التي أسقطت الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بينما كان يناجي زيوس الأمريكي رونالد ريغان في محراب البيت الأبيض. ولم ينقذه هذا القرب والتقرب من مصيره المحتوم. وبالمقابل، بذلت واشنطن كل جهد ممكن دون الغزو المباشر لإسقاط النظام الحالي في السودان، بما في ذلك الدعم المباشر لتحالف معاد من دول الجوار، دعمت بدورها التمرد المسلح. ولكن هاهو النظام ما يزال قائماً رغم كل هذه الجهود، ولن تسقطه في نهاية المطاف إلا جهود الشعب السوداني حين تتوحد قواه الفاعلة.
[CENTER](7)[/CENTER]هذا الانتشار المخيف لعقلية الخرافة وأساطير المؤامرة بين النخبة المفكرة أخطر بكثير من انتشار وباء التطرف الديني، بل هو مظهر آخر من مظاهر الفيروس المعدي الذي يصيب العقول فتصبح أداة ظلام لا تنوير. فنحن نشهد هنا التهرب من المسؤولية، والتمسك بروايات وأساطير لا علاقة لها بالواقع، أو نسج هذه الأساطير والترويج لها بما يغيب العقول ويعفي من أداء الواجب.
[CENTER](8)[/CENTER]لعل الحالة المصرية هي أبلغ تعبير عن خطورة مثل هذا المرض العضال، حيث كانت أعراضه ظاهرة حتى قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير التي وقعت بدورها ضحية له. فقد دأب نظام مبارك، وكان عالة على معونات سخية تأتيه من أمريكا ودول الغرب بكرة وعشياً، على اتهام معارضيه بأنهم عملاء للغرب! وبالأمس القريب سمعنا من ناطق رسمي مصري يصف تخفيض المعونات العسكرية الأمريكية بأنه محاولة لن تخضع لها مصر للضغط والإكراه! وهذا لعمري من أغرب الأمور. فإذا كان تخفيض المعونات وسيلة للضغط، فماذا يكون إعطاء هذه المعونات في الأساس؟ وهل أمريكا جمعية خيرية؟
[CENTER](9)[/CENTER]بالطبع إن أمريكا لا تمنح معونات عسكرية متطورة وسخية لجهة معادية، بل ولا لجهة تدعي استقلال القرار. وإنما تبرر هذه المعونات لا بد أن تبرر للشعب الأمريكي. وقد تم تبريرها من واقع دور التزمت به مصر وجيشها لخدمة مصالح أمريكا وعلى رأسها أمن إسرائيل. ومن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل. والحكومة الأمريكية تشعر اليوم بأن النظام الحالي لن يخدم مصالحها، لأنه يتبع سياسات ستهدد استقرار مصر والمنطقة، وبالتالي ستضع أعباء إضافية على أمريكا وحلفائها. فالمنطق هنا هو منطق من يعطي، لا منطق من يتسول ثم يتصنع البطولات حين يعطى أقل مما تعود، فيملي الشروط ويطلق التهديدات وهو ما يزال صاحب اليد السفلى. فهل هناك تغييب للعقول وانقلاب للمطبوع′ (كما في تعبير ذلك المصري الاصيل، الجبرتي) أكثر من هذا؟
[/JUSTIFY][/SIZE]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]


