الملل ينجم عن خلل
خسرت شعبيتي في بيتي، وصرت في نظرهم مثل فشار الأسد في نظر السوريين قاسي القلب، وليس الراعي المسؤول عن رعيته، وكان ذلك منذ أن طبقت قبل سنوات قراري الديمقراطي بأنه «مفيش سفر إلى الخارج في الإجازات».. ومن يريد السفر إلى السودان فمرحبا به على أن يكون ذلك ما بين نهاية عام غريغوري (ميلادي)، وبداية عام جديد، ليس لأن ليلة رأس السنة في السودان شي ما ينفات، بل لأن درجة الحرارة في الخرطوم تكون دون الثلاثين بقليل فقط خلال ذينكما الشهرين،.. يعني شتاء نصف الكرة الشمالي هو ربيع السودان ولهذا فإن حكومتنا لا تبدو منزعجة مما يسمى بالربيع العربي،.. يعني ما عندناش ربيع بأمر الله، وبالتالي فنحن لسنا تونس أو مصر أو ليبيا او سوريا (وهو نفس الكلام الذي قاله القذافي وفشار سوريا وزين الهاربين بن علي) وكما يحدث في معظم البيوت فإن عيالي يحاولون ابتزازي عاطفيا كلما رفضت لهم طلبا: يا أحلى بابا.. نحن نعرف إنك «حنيِّـن» وعطوف وكريم! فأقول لهم: شكرا على المديح ولكن لا تحلموا بالسفر إلى أي جهة غير الخرطوم على حسابي.. هنا يغيرون التكتيك.. تنادي: يا ولد تعال، الغدا جاهز، فيرد عليك بأنه بلا «نَفْس» للأكل.. طيب نروح مطعم؟.. لا المطاعم صارت مملة (وبعد ذلك بنحو ساعتين يتحرك سرا ليعد لنفسه سندويتش بالجبن او التونا).. وتتردد كلمة الملل على ألسنة عيالي عدة مرات يوميا ولكن لا «حياء» لمن تنادي.
المقولة التي رددتها مرارا في هذا الحيز وبكل فخر، هي أنه ليس للملل مكان في قاموسي.. هل أنا عديم الإحساس؟ بالعكس: شديد الحساسية تجاه كل شيء وخاصة الوقت.. جربت الملل ولكنني تعلمت كيفية التغلب عليه.. والسلاح الفعال لهزيمة الملل هو عدم فتح ثغرات يتسلل منها.. وأوسع الأبواب لتسلل الملل إلى النفس هو «وقت الفراغ».. وإذا شطبت من حياتك وقت الفراغ تكون قد هزمت الشيطان في إحدى الجبهات المفضلة لديه «إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة».. أين هو الوقت أصلا إذا أردت لحياتك ان تكون ذات طعم ومعنى حتى تعاني من الملل ويكون عندك ما يسمى بـ«وقت الفراغ»؟ هناك وقت للعمل او الدراسة ووقت للراحة التامة وبينهما وقت ينبغي استثماره (أقرأ حاليا السيرة الذاتية للأمريكي الأسود المسلم مالكوم إكس، الذي لم يبق في المدرسة سوى 8 سنوات، دخل بعدها عالم الجريمة وبعد دخوله السجن عرف متعة القراءة، وخرج من السجن وهو أشهر مثقف ثوري أسود في تاريخ الولايات المتحدة، وهدته القراءة إلى أن إلايجا محمد الذي أقنعه باعتناق الاسلام دجال بدليل أنه ادعى أنه خاتم الأنبياء.. وقتله أتباع إلايجا).. عندنا في السودان أغنية معروفة للراحل سيد خليفة الذي اشتهر بأغنيتي «المامبو السوداني» و«إزيكم كيف إنكم» تقول: الله يخليك ويشيل من عمري سنة ويديك.. آآآخ لو كان ذلك ممكنا، لغرقت في الديون باستلاف الوقت الفائض عند الآخرين لإنجاز عشرات ومئات الأشياء التي أتمنى ان يسعفني العمر لإنجازها
أما أكبر مصدر للملل في حياة معظم الناس فهو العمل، عندما يكون رتيبا وخاليا من التحديات.. ولهذا فعندي على مكتبي عشرات الكتب، وما إن يصيبني القرف من العمل حتى ألجأ إلى واحد منها، أو أزور مواقع إنترنت محترمة وأحس بالاسترخاء، وأحيانا اكتشف انني قضيت في المكتب ساعتين ما بعد الدوام الرسمي دون أن أحس بمرور الوقت او الملل.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]