سياسية

الشيخ صامت في الخرطوم ومولانا يسعى جهده للحاق بالقاطرة من لندن


[JUSTIFY]”السودان سلة مواثيق العالم”.. بدأ توصيف المحلل السياسي والكاتب الصحفي الدكتور خالد التيجاني أكثر تعبيراً عن مآل وواقع البلاد ما بعد (باريس)، عاصمة الفرانكفونيين التي تضع أقدامها في وحل السياسة السودانية. حفيد قائد ثورة تحرر السودانيين الأولى يضع أقدامه في المطار، بمعية أوراقه، وقلم التوقيع.. ينتظره هناك من توجوا أنفسهم قادة لثورة التحرير الشعبي من التهميش، يكتبون اتفاقهم ضد من يديرون قصر الرئاسة بالخرطوم.. قلم التوقيع بين الإمام وقيادات الجبهة الثورية يندلق مداده ناثراً التأثير في عدة صفحات، في وقت ما تزال البلاد تبحث خلاله عن صفحة تنام عليها، يرافقها الارتياح.. يعز المسير في طريق نهايته السلام أو هكذا يفترض المتشائمون في الوطن وبمستقبله.. ليسوا وحدهم؛ فحتى من يرتدون أبيض التفاؤل يقولون إن السواد غطى وطغى على كل المساحة المتبقية من خارطة البلاد. باريس تصنع تباينات المواقف السياسية؛ بين رافض لما تم التوقيع عليه، وموافق عليه، ومتحفظ على ما حدث. لكن باريس التي تصنع مواقفها، هي ذاتها التي تصنع رجالها، ومواقفهم، وفي رواية أخرى تظهر نساءا قدر لهن دفع الثمن.

باريس.. الإمام في متاهته قبل الأخيرة

باريس لم تكن لتنال كل هذا الصيت، إذا لم يحمل الإمام قلمه، ويضع حرف توقيعه على مغادرة محطات (السلمية) التي طالما تغنى بها في قمة (تحديات التسعينات)، وصدح بها في زمان ما بعد نيفاشا، واعتبرها نص حياته في سودان ما بعد التقسيم ورفع الدعم.. حتى وقت قريب ظل والد العقيد عبدالرحمن، والمعتقلة مريم، محتفظاً بشعرة معاوية بينه و(إخوان القصر) قبل أن تنقطع في رحلته الأخيرة، وهو يدشن مشروع التقارب مع حملة السلاح.

الإمام كعادته حاول التسويق لمشروعه الجديد من خلال البناء على جدلية (التحول الديمقراطي والوفاق الوطني والسلام)، لكن هذه الأمور لم تكن كافية لحمل الرجل في الطائرة العائدة للخرطوم، مكتفياً بالبقاء في القاهرة. ورغم أن زعيم الأنصار ينفي أن يكون لبقائه خارج حدود الوطن علاقة بخوفه من الاعتقال، بيد أن الوقائع تقول بعكس ذلك، والدليل أن عودة مريم كلفتها البقاء خلف القضبان في انتظار الانتهاء من التحقيقات، بحسب إفادات قيادات الحزب الحاكم. حسناً، باريس في رد فعلها الأول على عراب ميثاقها؛ فهي الآن تضعه خارج حدود البلاد وتفرض عليه هجرة أخرى وكأنه يستبطن عبارة المحجوب (هي هجرة أخرى فلا ترحل تماماً) وإعادة النظر في الأمر تبدو غير محببة للرجل الذي اكتفى بالتوصيف، أن الوطني لا ثقة له ولا خير يرجى منه أو هكذا انتهى المطاف بداعية الحوار وسلمية التوافق الوطني منخرطاً بعدها في جولات تبشير مكوكية لما توصل إليه، فقد اجتمع بسفراء الاتحاد الأوروبي في القاهرة وينتظر الآن هلّة ثابو أمبيكي لذات الغرض.

الإمام في استراحته القاهرية يبدو منتظراً حصاد غرسه في باريس- لكنه بحسب مراقبين- يبدو بعيد المنال في ظل غياب معادلة الثقة بين المهدي، ومعظم أطراف العملية السياسية؛ من بات يبادلهم المواجهة الآن أو حتى أولئك الذين وقع معهم على خطه السياسي الجديد، وهو ما يفرض على الرجل – وبحسب ماهو ماثل- انتظار ما تؤول إليه أوضاع البلاد التي لا تهدأ براكين السياسة فيها.

* غندور في انتظار عودة “الحبيب”

مساعد رئيس الجمهورية، مسؤول ملف التفاوض في الحزب الحاكم، البروفيسور غندور، قال صبيحة التوقيع إن اتفاق باريس لا يرجى منه، وأن على الجميع الخضوع لقيمة التفاوض؛ بعيداً عن وضع الأيادي على أيادي من يحاربون الوطن. غندور بدا أكثر مرونة في تصريحاته ولم يجرؤ على وصف ما حدث بأنه تعبير عن (غيرة سياسية) بين المهدي والترابي، كما مضى آخرون. الرجل الرافض لميثاق باريس بين الأمة والجبهة الثورية، انطلاقاً من موقف حزبه الحاكم، في تصريحاته الصحفية يؤكد أنهم في الحزب الحاكم لم يقطعوا بعض حبل الأمل في إمكانية عودة زعيم الأنصار من أجل الاستمرار في مشروع الحوار الوطني من الداخل، باعتباره المدخل الرئيسي للحلول السودانية.

والحال كذلك يبدو الممسك بملفات التفاوض موقناً للحد الاقصى بأن وجود ورقة الإمام وحزبه داخل الدرج تبدو على درجة بالغة من الأهمية، لذا لم تخفت نداءات غندور للصادق، رغم أنف الهجوم الذي ساقه عليه آخرون أعقاب التوقيع. مساعد الرئيس الحالم بعودة الإمام لإكمال مسيرة الحوار لم يتوقف عقب باريس عن مجهوداته في الجوانب الأخرى، إذ التقى أمس بالقيادي بالمؤتمر الشعبي علي الحاج في “بون” قريباً من باريس، لكن ثمة من يقول بأن غندور ما قبل باريس هو ذاته غندور الراهن، فالرجل يظل في رحلة بحثه عن سلام عبر التفاوض وفقاً لسلمية الممارسة السياسية. لكن ما يواجه المهدي الذي يرغب في عودته غندور، هو ذات ما يحيط برجل الوطني الثاني من أزمة الثقة، فرغم أن البعض يحترم غندور بشخصيته المرنة، لكن الأمر لا يمنعهم من التعاطي مع مشهده مثل تعاطيهم مع مشهد حزبه الحاكم الذي يقف في محطة عدم الثقة حين يتعلق الأمر بالآخرين وتعاملهم معه.

ترى هل يستجيب المهدي لنداءات غندور المتلاحقة ويعود في نسخة جديدة للحوار أم أن الهتافات ستضيع سدى دون أن يحدث جديد على الساحة المحتقنة بتبايناتها.؟

صمت الشيخ يهتف به كمال عمر

تدثر عراب الإنقاذ والإسلاميين، الشيخ الترابي، بصمته على ميثاق باريس بين الإمام وقادة الثورية، صمتا أعقب عملية المشاركة المفاجئة لحزب الترابي في الحوار الذي دعت له الحكومة، بل إنه صار من أكثر المدافعين عنه. فشل معظم الإعلاميين في الحصول على تصريح من الشيخ الذي اكتفى بالقول إن حديثه لم يأت أوانه بعد. لكن الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي، كمال عمر، سرعان ما أزاح ستارة الصمت بأحاديث اتخذت شكل الهجوم على ميثاق باريس وعلى حزب الإمام، ولم ينج من حملات لسان الشعبي الانتقامية على حلفائه في تحالف الإجماع الوطني. عمر الذي يرفض أن يتم تحميله (وش القباحة) قال إن ما ينطق به هو خط الحزب الذي يتحدث باسمه، ما يعني أنه الخط الذي يوافق عليه الشيخ الترابي ويمضي في سكة صمته لإنجازه على أرض الواقع وإعادة رسم الخارطة السياسية للبلاد. خارطة لم تتضح معالمها بعد وإن كانت القراءات تمضي فإنها ستتكون من إعادة لحمة (الإسلاميين) السودانيين لمواجهة التحديات المحيطة بمشروعهم إقليمياً ودولياً، وهو ما يعني أن خلف صمت الشيخ تهتف ملايين الكلمات وتختبئ خطوات لم تتضح معالمها بعد.

مولانا.. محاولة اللحاق بالقاطرة

عرمان برفقة التوم هجو، يهبط الرجلان في (لندن) وفي بالهم لقاء رجل الاتحاديين والختمية الأول، ربما كانت تلك هي المفاجأة الثالثة في بلاد المفاجآت. (الميرغني) الذي تدثر بعباءة صمته وهو يستمع لشروحات تتعلق بالاتفاق بين المهدي والثورية.

صمت الرجل خرج بذات كلماته المفتاحية وهي الحرص على سلامة وديمقراطية السودان. وهو ما يمكن القول بأنه لم يكن ثمة جديد في أمر الحديث. الجديد فقط هو الظهور المفاجئ لزعيم الختمية، حضر الميرغني من الضفة الأخرى للنهر، فالرجل بحسابات السياسة والتحالفات اتخذ ضفة النيل برفقة وزرائه الخمس وبجدل الاستعداد لخوض غمار الانتخابات بين الحقيقة والخيال. لكن شتاء باريس أيضاً يستكثر على الرجل الاستمتاع بالأجواء اللندنية برفقة مساعد الرئيس نجله جعفر الصادق. ويلج به إلى حرارة الطقس السياسي في بلاد الاستواء. غياب الميرغني عن المشهد السياسي في الفترة السابقة زاد من الإحساس بأن ثمة اختلاف بينه والحزب الحاكم وأن شهر العسل في طريقه للانقضاء، كما أن الحراك المحموم لغريمه الحزبي الإمام الصادق وصمت الترابي قد حفزا الرجل لخطوته الأخيرة التي يبدو فيها وكأنه يعيد نصب عباءته على رفاق الأمس في التجمع الوطني، ولكن تحت ستارة جديدة هذه المرة، وفي انتظار نتائج أخرى ربما تأتي وربما لا يحدث ذلك.

باريس وميثاقها تعيد رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وهو يقف بين (عرمان والتوم هجو) لكن العودة لم تتضح من خلالها معالم المسير الجديد لحفيد المراغنة ووريث حزب الأزهري. لكن المؤكد أن الخطوة الأخيرة ستباعد بين الرجل وخطوة العودة إلى الخرطوم، ومؤكد أن الحكومة ستفقد نصيراً جديداً حال حزم الرجل حقائبه في اتجاه تحالف الناقمين على سياساتها.

الخطيب الشيوعي في مواجهة الأمة

ربما لم يكن مفاجئاً التئام اجتماع بين دعاة الإصلاح بقيادة العتباني ودعاة الاشتراكية بزعامة الخطيب، اجتماع الإصلاح الآن والحزب الشيوعي أمس الأول يبدو مهضوماً في سياقات المسار السياسي السوداني باعتبارات تراجع الأيدولوجي على حساب اللحظي الاستراتيجي لصالح التكتيكي في سبيل دعم الخط السياسي. هذا ما حدث بالأمس لكن ما حدث قبله يمكنك قراءته في ثنايا التصريح الأول لرئيس تحالف هيئة الإجماع الوطني، فاروق أبوعيسى، حين قال إنه لا يثق في تحالف يقوده المهدي أو لا يثق في نوايا الرجل في تعاطيه مع مشهد المعارضة، لكن عدم الثقة عند أبوعيسى ينطق به السكرتير العام للحزب الشيوعي، مختار الخطيب، حين يقول بأنهم لن يسمحون للمهدي بإقامة تحالف بعيداً عن التحالف المعارض الذي يعمل منذ سنوات، وهو ما ينبئ عن خطوات حزب الرجل فيما يتعلق بالميثاق الباريسي، فعقب توقيعه أصدر الحزب بيانا مقتضبا معلنا ترحيبه بما تم التوصل إليه هناك، لكن الترحيب الآن يبدو أن هناك عملية انقلاب عليه من قبل الشيوعي السوداني ومن سكرتيره العام وربما لجنته السياسية. إذن موقف الخطيب عقب باريس يتأرجح بين قبول ما تم التوصل إليه فيما يتعلق بإدماج الحركات المسلحة ومتحفظ عليه بمن قام بإنجازه وهو الإمام، والمؤكد أن الشيوعيين يقرأون من كتاب ماديتهم التاريخية، ويستعيدون شريط التجمع الوطني الديمقراطي ومآلاته التي دفعت بالدكتور حيدر إبراهيم إلى أن يؤبنه بالقول (ما كت دايرالك الميتة أم رماداً شح كنت دايراك يوم لقى وفي دميك تتوشح)

أمبيكي رجل يتحين فرصته

الجنوب أفريقي، وسيط السودانيين لمعالجة مشكلاتهم، ثابو أمبيكي. قبل أيام من الانفصال كان يخاطب أبناء السودان بأن رجاءً أعطوا التاريخ فرصة. لكنهم لم يفعلوا ذلك وأعلنوا مفاصلتهم التي منحت الرجل وظيفة جديدة بأن أصبح وسيطاً بين الدولتين ووسيطاً بين فرقاء الدولة الأم وهو نفسه الوسيط في صراعات الجنوبيين. لكن الوسيط الذي هبط إلى الخرطوم ليشيد بما تم التوصل إليه في الحوار الوطني واعتبره مدخلا قد يقود للاستقرار، طار بعدها إلى جوبا ومنها إلى أديس وبعدها للقاء المهدي. أمبيكي ينظر للحراك الدائر بين السودانيين أنفسهم بأنه فرصة يمكن الاستفادة منها في تحقيق تطلعات المجتمع الدولي لاستقرار حفيت الأقدام بغية الوصول إليه، فهل ينحج في مسعاه أم أن تهمة (محاباة) الحاكمين ستقضي على آماله.؟

اليوم التالي
خ.ي[/JUSTIFY]