فُقرا شيلوا الجلالة لـ “علي ود زكريا” السلطان علي دينار.. خمس وعشرون زوجة وقصرٌ مشيدٌ
بعد الرحيل المُبكر لوالده الأمير (زكريا)، وهو لم يشب عن الطوق بعد، استقر (علي) مع والدته وأخته في كنف عمه السلطان (حسين) إلى أن توفي، فتزوجت أمه بالشيح (مكي منصور)، زعيم (بني منصور)، فرافقها إلى منطقة (الملم) وعاشا هناك.
يقول المؤرخون: تولى السلطان (علي دينار) الزعامة على أيام المهدية في عام 1889م، بعد أبي الخيرات ابن السلطان (إبراهيم قرض)، وخضع لها بعد عامين من حكمه، إذ أرسله الأمير (محمود ود أحمد) إلى الخليفة (عبد الله التعايشي) في العام 1897م، واشترك في بعض حملات المهدية على (تقلي)، ولما سمع بوصول الجيش الفاتح عام 1898م تمرَّد وفرَّ من كرري إلى دارفور واحتل الفاشر.
من برنجية إلى كولمي
اعترفت به حكومة العهد الثنائي عام 1900م. وفي الحرب العالمية الأولى سعى إلى التحالف مع الأتراك والسنوسيين وأعلن معارضته للإنجليز، واستعد للحرب، ولكنه هُزم في (برنجية) قُرب الفاشر، فانسحب إلى (كولمي)، حيث قُتل برصاصة في نوفمبر عام 1916م أثناء مطاردة (هدلستون بك) له.
في المتحف الحربي
كنتُ أُردد وأنا أقف أمام أسلحة السلطان: “فاطمة بت النبي.. نور ابوكِ زي القمر ما بنخبي/ والشقي ما بنسعد/ والحسين جدو النبي/ فقرا شيلوا الجلالة لعلي ود زكريا/ الرسول خير البرية”. احتشدت الذاكرة بقصص وحكايات شعبية رويت عن السلطان لعل أشهرها قصة (التيتل)، وخوف الناس من تسمية أبنائهم بـ (علي) توقيرا واحتراما لمقام السلطان العالي، قصص ربما تاخمت في زخمها وحبكتها (سحرية) (غارسيا ماركيز وجورجي أمادو)، حاولت أن أستعيد (شريط) التوثيق وأقرأ منه: كان (السلطان) يكسو الكعبة ويبني أوقافا لحجاج بيت الله الحرام، وهي ما زالت قائمة في الحجاز، ولعل أشهرها (آبار علي) على مشارف المدينة المنورة، وباب شريف في جدة، وفي عهده وإلى وقت قريب ظل (رواق دارفور) في الأزهر الشريف موئلا لنهل العلم، وكان أهل دارفور لا ينقطعون عنه.
فُقرا سووا الجلالة
ظلت لجلالات السلطان في فاشره التي اختارها عاصمة لسلطنته (1898-1916م)، فخامة وهيبة، يرددها الجُند على إيقاعات الطبول استعدادا لحرب أو فرحة بانتصار.
ليس بالسلاح والصمود وحدهما استطاع السلطان إيقاف زحف الاستعمار البريطاني ومقاومته لأكثر من 18 عاماً، بل عبر حماسة الجلالات وأراجيز الحكامات، والمدد الروحاني الكامن في سواد مداد ألواح القرآن، وماء آبار المدينة المنورة، وأوقاف الأماكن المقدسة، ودعوات طلاب علوم القرآن في الأزهر الشريف.
في الفاشر أب زكريا
(أبرم) السلطان قصرا شاده مهندسون (أجانب) بقيادة التركي الحاج (عبد الرازق) وطاقمه المكون من معماريين مصريين أبزرهم (عطية محمد وأحمد موسى)، واستجلب نجارين (أغاريق) من بلاد اليونان لزوم (نجر) ونمنمة الأبواب والنوافذ، وأبدع أهل الإلياذة والأوديسة وأغدقوا على القصر ترفاً خشبياً قلت نظائره في العالمين، ولا زال الفاشريون وغيرهم يتحدثون عن (ديمتري وتوماس راخو) بعشق ودهشة.
1912م
بلغ البُنيان تمامه، لأنه لم يكن هنالك أحد يجرؤ على الهدم، فانتقل السلطان إلى جناحه الذي يبدأ بما لا (عينئذ) رأت، ولا (أذنئذٍ) سمعت، وينتهي بباب من خشب الأبنوس ملصقة عليه صورة فوتوغرافية مكبرة للقائم على أمر تجارة جنابه، الشيخ السيماوي.
يفضي الباب الذي تشرف (صدره) بصورة السيماوي إلى بهو فسيح، تتناثر على جوانبه الخزفيات (الهاند ميد) عالية الجوده والمشغولات الجلدية والسعفية التي تضفي على رحابة المكان بعدا فنيا يكشف عن مهارة إنسان (السلطنة).
خمس وعشرون امرأة هن زوجات السلطان اللاتي شغلت أدوات زينتهن الجناح الثالث بأكمله، وهذا يُشير إلى مدى الدلال والترف والجاه السلطاني لنساء القصر، إذ كُن يضعن عطورهن التي بعبق فلكوري نافذ في أحقاق من العاج والذهب والخزف المنمنم والموشى بأشكال هندسية ورسوم، بجانب أباريق وقوارير شاي مُقدرة، وقدورٍ لزوم طهي ما لذيذ وحاذق الأطعمة.
في مديح المليح
يقول المؤرخ الدكتور عبده بدوي في دراسته عنه: كان السلطان عازماً على السير شرقاً لوضع السودان كله تحت سيطرته، وتخليصه من الحكم القائم، لكن الإنجليز شغلوه بالحملات المستمرة بقيادة (كلي باشا) التي كانت تناوشه لتلهيه وتشغله، وكانوا يثيرون عليه رجال الدين في الخرطوم، ويطلبون منهم الكتابة إليه في هذا الشأن، فيسارعون بطلب دخوله في طاعة الحكومة، ولكنه كان مصمما على تسوية جميع خلافاته مع الإنجليز. بيد أن حماسه هذا لم يستطع الوقوف أمام الأسلحة الحديثة التي أسقطت رجاله من حوله في موقعة (برنجية)، التي أعلنت انتهاء حقبه ثرة ونوعية من تاريخ دارفور، وبموجبها انضمت دارفور إلى السودان 1916م، ورغم الأحزان الأخيرة لا زال الناس يرددون: فُقرا سووا الجلالة لعلي ود زكريا ويترنمون بما ورد في كتاب السلطان من مديح النبي المليح.
اليوم التالي
خ.ي